ودخلتها بلباس آخر
كل ذكرياتي في أروقة المستشفى هي من صميم عملي، ما بين طبيب
مناوب في أقسام الطب الباطني، أو طبيب يمر على مرضاه متأملا سرعة شفاءهم وتداويهم
من المرض. وفي كل مرة هناك
قصة مفرحة أو حزينة تنحفر في طيات القلب والعقل، فلا تغادره أبدا. ما أكتبه وأدونه
هو جزء يسير جدا مما ينغرس في الأعماق، فلكل مريض حكاية مختلفة عن الآخر.
أن أكون بلباس المريض، فتلك حكاية أخرى، خصوصا إن كانت الحكاية
في المستشفى الذي أعمل فيه. تجربة جديدة تضاف إلى قائمة تجاربي السابقة بل ربما
أصعبها على نفسي، فالمريض هو أنا، والمرافقون هم أهلي، والأطباء هم زملائي
وأساتذتي. والتشخيص لا يصدر مني، بل من زميل لي.
هل أنا على أتم الاستعداد لخوض غمار هذه الحكاية؟ وهل أستطيع
الصمود حتى نهايتها؟ فلست أنا من يحدد مسيرة العلاج، ولست بالذي يأمر وينهى وينصح
ويفعل! فأنا في هذه المرة مَن عليه السمع والطاعة والإذعان لما يقوله الطبيب الذي
هو بكل حال في هذه المرة الأكثر خبرة والأمهر والأفضل.
قصتي امتد صفحاتها إلى ثلاثة أو أربعة أيام، تزيد أو تنقص بضع
ساعات. رأيت فيها ما يرى المريض، وأحسست لأول مرة بشعور المرض، وأيقنت بأن المريض
حينما يأتي إلى قسم الطوارئ فإنه يتضور جوعا إلى العلاج الشافي، ويكون عاطشا ينتظر
شربة من الدواء أو مسكنا للألم.
الساعة الآن تشير إلى الثالثة فجرا، وبعد أن أخذ طبيب الطوارئ
التاريخ المرضي بشكل مختصر، وقام بعمل فحص سريري، خرجت نتائج فحص الدم مشيرة إلى
ارتفاع طفيف في كريات الدم البيضاء، فأخبرني بأنه سيقوم بطلب الأشعة المقطعية على
عجل فإنه يظن بأن ما بي هو الزائدة الدودية.
ولكني بحكم عملي وخبرتي البسيطة في هذا المجال كنت أنكر ذلك،
ولأننا تعودنا ومنذ نعومة أظفارنا في كلية الطب بأن نضع قائمة لبعض التشخيصات، فقد
وضعت أسوأها كاحتمال أول لما أعانيه. ربما لأن المريض هو أنا وليس شخصا أخر.
لأول مرة أشرب الصبغة الملونة التي تستخدم في الأشعة المقطعية،
وكم من المرات طلبت من المرضى الذين أعاينهم أن يشربوها دون أن أعرف لها طعما أو
لونا أو رائحة. بعد مدة وجيزة ذهبت إلى قسم الأشعة.
والطريف في الأمر أن الفني في قسم الأشعة كان يعرفني، فسألني
مباغتا، هل جربت من قبل أن تخضع للأشعة المقطعية، فأجبته نافيا. فكانت أول مرة
أجرب فيها الأشعة المقطعة واستشعر فيها شعور المريض الضعيف الذي يأتي إلى هذا
القسم ملبيا توجيهات ونصائح الطبيب.
وبعد ساعة يأتي إلي طبيب الطوارئ ليسألني عن حالتي الصحية
ويخبرني بنتيجة الأشعة المقطعية، "كل شي تمام دكتور، تستطيع الذهاب إلى
المنزل، وسأصف لك بعضا من الأدوية التي سوف تساعدك".
بالفعل، ذهبت إلى المنزل، وما لبثت فيه ردحا من الوقت، حتى
باغتني ألم الأمعاء وكأن أمعائي تتقطع بالسكاكين الحادة، في ذلك الوقت أحسست بأن
روحي قد بلغت التراق. وعدت من فوري إلى المستشفى لألبس ثوب المرض والمرضى في أقسام
الترقيد.
لبثت هناك يومين او ثلاثة، عشت فيها ساعات من الألم والتعب،
وساعات من الراحة، فقد كان الكل يعرفني، وأعرف الكل، وقد زارني الكثير من اساتذتي
وزملائي وقبل ذلك أهلي وأقاربي. نمت
في تلكم الليلتين على سرير المرضى، ووُضعت في يدي إبرة المغذي وإبرة مسكن الألم
وغيرها من الإبر. قاموا بقياس ضغطي مرات ومرات، حتى أنني كنت اشتكي من كثرتها،
وربما كان المرضى اللذين بجانبي يشتكون من نفس الأمر.
إلى أن جاء اليوم الموعود، أو اليوم الذي كنت أنتظره بفارغ
الصبر، فقد أعلن الطبيب المختص عن الإفراج الفوري عني من المستشفى، فخرجت رافعا
رأسي منتصرا على مرضي، لأعود إليه بعد أيام طبيبا أعالج مرضاي، ولكن هذه المرة
وأنا أعرف شعورهم وإحساسهم وآلامهم.
د. رضا بن عيسى اللواتي
مسقط – سلطنة عمان
يوم الخميس الموافق 12/مارس/2020