عندما يذكر إسم الحسين بن علي عليه السلام في أي مجلس، يتبادر إلى الذهن مصيبة عاشوراء وما جرى على أهل الحسين واهل بيته واصحابه في ذلك اليوم وما جرى على نساء الرسالة بعد ذلك اليوم. ولكن الحسين عليه السلام لم يقم ثائرا في وجه الطغيان من أجل ان نبكي عليه فقط ومن أجل ان نندبه صباحا ومساء فقط. لا اقول بأن ما نفعله خطأ فقد أمرنا أهل البيت عليه السلام بعقد المآتم تخليدا لذكرى الإمام الحسين عليه السلام وأمرنا صاحب العصر والزمان عليه السلام في زيارة الناحية المقدسة "لأندبنك صباحا ومساء ولأبكين عليك بدل الدموع دما" وفي هذا إشارة لنا أتباع هذه المدرسة بأن نندب الحسين عليه السلام ونخلد ذكراه ونستذكر ما جرى عليه.
وفاضت الروايات الشريفة من أهل البيت عليه السلام تذكر الناس بأهمية عقد المجالس والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام فقد جاء في كتاب الأمالي للشيخ الصدوق رواية عن الإمام الرضا عليه السلام يقول فيها" من تذكر مصابنا و]بكى[ لما ارتكب منا كنا معنا في درجتنا يوم القيامة ..." وجاء في تفسير القمي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:" من ذكرنا أو ذ ُكرنا عنده ]فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة[ غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر". وروي في كامل الزيارات عن الإمام الصادق عليه السلام ما يؤكد على أن البكاء على الإمام الحسين عليه السلام له جزيل المثوبة فهو يقول:" إن البكاء والجزع مكروه للعبد ]ما خلا البكاء والجزع[ على الحسين بن علي عليه السلام فإنه فيه مأجور".
هذه الروايات تمثل قطرة من ماء بحر، فقد وردت مثلها اضعافا مضاعفة في كتب الحديث واخذ علماءنا الأبرار يشرحون هذه الروايات الشريفة بتفاصيلها الدقيقة جدا وتطرقوا أيضا إلى موضوع زيارة الإمام الحسين عليه السلام الذي وردت فيه روايات كثيرة تحثنا على زيارته ففي تهذيب الأحكام يقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم:" من زار الحسين بعد موته فله الجنة" ويقول الإمام الصادق عليه السلام في نص صريح اخر كما ورد في كامل الزيارات: "زِيارَةُ الحُسين بن علي ( عليهما السلام ) واجبة على كل من يقرُّ للحسين بالإمامة من الله عزَّ وجلَّ" وروي أيضا في كامل الزيارات عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:" زِيارةُ الحسين ( عليه السلام ) تعدل - أي تعدل بثوابها - مِائة حَجَّة مَبرورة ، ومِائة عمرة مُتَقَبَّلَة". وفي هذا ايضا روايات مستفيضة.
ولكن هل الحسين بن علي عليه السلام عَبرة وبُكاء فقط ؟ أم هل كان خروج الإمام الحسين عليه السلام من أجل أن نبكي عليه اكثر من 14 قرنا ؟ أم ان لحركة الإمام الحسين عليه السلام أهدافا اخرى ويجب علينا تقصيها؟ إن المتتبع لسيرة سيد الشهداء عليه السلام يلحظ أنه عليه السلام كان يدلي بتصريحات شديدة اللهجة مع كل حركة يخطوها فأول ما قاله عليه السلام" إني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمتي جدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وابي علي إبن ابي طالب". هذه العبارة التي بدأ بها سيد الشهداء مسيرته إلى كربلاء وضعت عنوانا عريضا لحركته المباركة الا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا الأمر الذي جعل أمة الإسلام أفضل الامم حيث يقول الله تعالى:" كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" ]سورة ال عمران 110[. ولما رأي الإمام الحسين عليه السلام ما حل بأمة جده رسول الله (ص) خرج لإحقاق هذا الحق.
وكان أخر ما نطق به الحسين بن علي عليه السلام في ملحمة الطف كان:" ألا إن الدعي بن الدعي قد ركز بين إثنتين .. بين السلة والذلة .. وهيهات منا الذلة". وهذا التصريح الذي ادلى به الإمام الحسين عليه السلام في أخر لحظات حياته يبين على ان المؤمن يجب أن لا يكون ذليلا في دينه أو دنياه بل يجب عليه أن يكون قويا عزيزا يجابه الباطل بأنواعه المختلفة وحسب ما تقتضيه حاجة المجتمع في ذلك الوقت.
ولذلك نستطيع أن نستلخص من سيرة الإمام الحسين عليه السلام دروسا وعبرا تكون لنا منارا في قادم ايامنا وبالخصوص ونحن نعيش موسم عاشوراء الحسين عليه السلام وموسم التضيحة والفداء. وأحد هذه الدروس ]المقاومة المدروسة[ .. إن الإمام الحسين عليه السلام لم يخرج لقتال وإنما خرج للإصلاح واضعا نصب عينيه خططا مدروسة للقيام بهذا الأمر. فواضح الأمر في ذلك الوقت أن القوة التي تحارب الرسالة السماوية قوة كبيرة جدا ولها اهداف ومخططات إلى المدى البعيد وكان من واجب الإمام الحسين عليه السلام الذي يُعتبر إمتدادا للرسالة ولصاحبها (ص) أن ينهض لمواجهة الباطل. وكان الأمر في بداية المسيرة هو تأجيج مشاعر الناس في المدينة المنورة ومكة المكرمة وتعريفهم بالحق وإيضاحه لهم وأن ما يحصل الآن ما هو إلا فساد كبير.
وإستمر الإمام يدعو الناس في اطهر بقعتين على وجه الأرض إلى أن جاءت رسل أهل الكوفة فكانت حجة عليهم فأرسل إليهم رسوله وسفيره مسلم بن عقيل ليأخذ بيعتهم، وفي هذا التصرف رسالة للجميع بأن من يريد أن يقوم بثورة وينهض لمقاومة الظلم والعدوان فعليه أن يجمع العدة والعتاد لا ان ينهض بدون أي زاد أو سلاح، لان ذلك سوف يكون مصيره الفشل الذريع والسقوط إلى الهاوية. ثم يخرج الإمام الحسين عليه السلام من مكة في يوم التروية وهو يوم يتوافد الناس فيه إلى الحج وفي ذلك إعلان عن عدم شرعية الحكومة التي كانت قائمة انذاك لانه اعلن بعدها "أن هؤلاء القوم لو وجوده في اي حجر لانتزعوه وقتلوه" والسلطة القائمة على سفك الدماء في البيت الحرام ما هي إلا حكومة شيطان وسلطة ظلم وعدوان.
وكان عليه السلام عندما ينزل في كل منزل يتحدث للناس عن نفسه وعن مناقبه ويدعوهم إلى بيعته واللحاق به وبهذا يقول لنا الإمام الحسين عليه السلام إن اردت أن تقاوم فيجب أن يكون لك إعلام قوي يبين للناس ما انت فاعل وما هي خطتك ولماذا تريد النهضة. وفي هذا تبيان دور الإعلام في التأثير على الناس وتحويل دفة النهضة إلى ما يريده الشعب ولتحقيق النصر يجب أن يؤدي الإعلام المقاوم دوره ويثير الناس ضد الطغمة الحاكمة كان كان هو عليه السلام يفعل وكما كان يأمر شعراءه في ذلك الزمان بأن يفعلوا وكما فعل الائمة من بعده فهذا الإمام الصادق عليه السلام يأمر هارون المكفوف ذلك الشاعر بأن ينشد للناس أبياتا عن مصرع الإمام الحسين عليه السلام وكذا يفعل الإمام الرضا عليه السلام مع دعبل الخزاعي في قصيدته التائية وذلك لأن الشعر كان واحدا من أهم اساليب الإعلام في ذلك العصر وذلك الزمان.
بيان مثالب وتناقضات العدو كانت من أهم ما عمله الإمام الحسين عليه السلام في نهضته الشريفة لأن مثل هذا العمل يؤثر في النفوس تأثيرا كبيرا ويبين للعوام من الناس ولربما من نافقته السلطة الحاكمة انذاك طبيعة الحاكم وطبيعة ما يقوم به اصحاب النفوس المريضة وكثيرون ممن علموا بهذا الأمر تحولوا في صف الإمام الحسين عليه السلام كزهير بن القين البجلي والرجل النصراني الذي أسلم فيما بعد. وقد كان الإمام الحسين يقول:" يزيد رجل فاجر فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله" وقال في اخر ايامه عليه السلام" ألا إن الدعي بن الدعي". وبهذا وجه الإمام الحسين عليه السلام درسا لمن لحقه وأستفاد المختار الثقفي من هذا الدرس ايما إستفادة حيث نشر مساوئ بني امية في ذلك الوقت وبين للناس طريقة مقتل الإمام الحسين عليه السلام وكانت هذه واحدة من اسباب نجاح ثورة المختار الثقفي.
واخر ما عمله سيد الشهداء في مسيرته بل ربما يكون اهم ما عمله الإمام الحسين عليه السلام هو نشر مظلوميته بين الناس وذلك عن طريق أخته الحوراء زينب عليه السلام وابناءه الأئمة المعصومين عليه السلام ولذلك نجد الثائر الشهير غاندي يقول "علمني الحسين كيف اكون مظلوما فأنتصر" وقد ذكر الإمام الحسين عليه السلام ذلك في خطاباته لأهل الكوفة وقت قدوم جيش الحر بن يزيد الرياحي حيث يقول:" وَقَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ أَنَّكُمْ لاَ تُسَلِّمُونِي وَلاَ تَخْذُلُونِي ؛ فَإنْتَمَمْتُمْ عَلَي بَيْعَتِكُمْ تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ". ويقول ايضا يوم العاشر لمن جاء لحربه:" فإنْ كنتم في شكٍّ من هذا أفتشكّون أَنّي ابنبنت نبيّكم ؟ فواللهِ ما بينَ المشرقِ والمغربِ ابنُبنتِ نَبيٍّ غَيري ، فيكم ولا في غيركم . وَيْحَكُمْ أتطلبوني بقتيلٍ منكمْ قتلتُه ؟ أو مالٍ لكم استهلكتُه ؟ أو بقصاصِ جراحةٍ ؟" وذكر ايضا:" تَبّاً لَكُمْ أَيَّتُهَا الْجَمَاعَةُ وَتَرَحاً حِينَ اسْتَصْرَخْتُمُونَا وَالِهِينَ ، فَأَصْرَخْنَاكُمْ مُوجِفِينَ ؛ سَلَلْتُمْ عَلَيْنَا سَيْفاً لَنَا فِي أَيْمَانِكُمْ !".
ولما كان الإمام الحسين عليه السلام اخذ اخته زينب بنت امير المؤمنين وبقية النساء والأطفال معه فكان لابد أن يشاركوا بشيء في بيان مظلومية الإمام الحسين عليه السلام وبيان أهداف ثورته فقد خطبت السيدة زينب عليه السلام خطبة في اهل الكوفة في رحلة السبي والأسر رقت لكلامها قلوب الناس وبكوا بكاء شديدا فما كان في ذلك اليوم إلا باكٍ وباكية وربما كان هذا الخطاب سببا رئيسيا للثورات اللاحقة حيث اججت النفوس وبينت لهم أن عليهم إستعادة حقوق أهل البيت عليه السلام وما سُلب من حقهم فقالت:" ويلكم يا اهل الكوفة أتدرون اي كبد لرسول الله فريتم وأي كريمة له ابرزتم واي دم له سفكتم واي حرمة له انتهكتم"، ولولا انه أخذ النساء والأطفال معه لما وصل إلينا إلا النزر اليسير من مسيرة كربلاء ولغابت عنا اهداف هذه الثورة وفي هذا يقولكارلس السير برسي سايكوس ديكنز:" إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإنني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟إذن فالعقل يحكم أنه ضحى فقط لأجل الإسلام".
وكذلك فعل الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية حتى اجهش الجميع بالبكاء. فعرف الناس بذلك مظلومية الإمام الحسين عليه السلام وعرفوا ما هي اهدافه من هذه الثورة بالإضافة إلى ذلك عرف الناس اجمعين ما هي افعال يزيد بن معاوية الجائرة.
ومن خلال هذا كله، يتبين لنا أن من يريد أن ينهض بثورة ويقوم بإصلاحات جذرية في مجتمعه عليه أن يحذو حذو الإمام الحسين عليه السلام ويقوم بإتباع نهج الإمام الحسين عليه السلام في نهضته وثورته، وأن يكون هدفه الأسمى والأكبر هو رضا الله سبحانه وتعالى وإحقاق الحق وتغيير الباطل كما كانت نهضة الإمام الحسين عليه السلام.