بين الأصالة والمعاصرة .. صراع دائم
كثيرا ما تم استخدام مصطلح "الأصالة
والمعاصرة" في حديث الأدباء والمفكرين وتمت الإشارة إلى هذين المصطلحين في
مواضيع وأبحاث عديدة، وكتب عنها الباحثون وأشارت إليها الأقلام، وعُقدت من أجل
شرحها الندوات. ولكن يبدو أن الكثير من هؤلاء المحللين والباحثين لم يستطعوا إيجاد
التناغم بينهما، فأخذوا ببيان تناقضهما وبيان البعد الشديد بينهما والهوة العميقة
التي تفصلهما، بل وتحدث بعضهم وأشار إلى استحالة إيجاد التوافق بين "الأصالة
والمعاصرة".
ولو جئنا إلى الأصالة بمعناها اللغوي
البحت نجد أنها كل ما يتصل بالماضي من عادات وتقاليد ومواريث، بينما تُعرف
المعاصرة على أنها كل ما هو جديد ويلازم التطور والازدهار. ومن خلال المعنى اللغوي
للكلمتين، يبدو أنه من الصعوبة بمكان إيجاد التوافق والتلازم بينهما، بالخصوص بعد
بزوغ عصر التكنولوجيا والتطور وعصر الحريات والديموقراطية في حياة الشعوب. ولكن
السؤال المطروح "هل يمكن الجمع بين الأصالة والمعاصرة في إطار واحد؟"
وهذا السؤال عادة ما يتكرر بعد كل حوار وندوة أو مناظرة، دون الحصول على إجابة
واضحة وصريحة.
لقد قيل قديما أن الأمة التي ليس لها
ماضٍ ليس لها حاضر ولن يكون لها مستقبل، وهي معادلة صحيحة جدا، فكيف لأمة لم يكن
لها إنجازات فيما سبق ولم تُعرف قبل الآن وليس لها عادات وتقاليد أن يكون لها حاضر
فضلاً عن وجود مستقبل لأبنائها. فما نراه في واقعنا الحالي من أمم كانت مُشردة في
سالف الأزمنة ومن دون إنجازات سابقة وليس لها عادات تحكمها، هي لا تستطيع بناء
حاضرها بناءً راسخاً صلباً يضمن لها تطورها ونموها في المستقبل. على العكس تماما،
فإننا نجد الأمم التي عاشت ماضيها وهي أمم منتجة مُنجزة ولها عادات وتقاليد راسخة
ورثتها لأبناءها وأجيالها اللاحقة فإن لها حاضر مضيء ومستقبل يمكن التكهن بحاله،
كحال أمتنا العربية وإن كانت تعيش حالياً تحت أنقاض ماضيها المجيد إلا أن الربيع
العربي قد يعيد لها بعضا من رونقها وجمالها.
في مقابل ذلك، فإن التطور الحاصل في شتى
مجالات الحياة، وأبرزها التطور العلمي والتقني، والسرعة الشديدة التي تزدهر فيها
العلوم والتقنيات وغيرها، تجعلنا نقف أمام مصطلحات الحداثة والانفتاح على الثقافات
الأخرى وأفكار الطرف الأخر. فلا يمكن لنا أن نبقى في أخر السباق متخلفين عن بقية
الأمم بحجة الأصالة والعادات والتقاليد.
وقد أخذ المفكرون والباحثون في هذا
المجال باستعراض أبحاثهم وأفكارهم فبعضهم يقول أنه إذا أردنا أن نتطور ونلحق بركب
العلماء والباحثين فإن علينا أن نترك تراثنا وعاداتنا جانبا ونسير بخطىً حثيثة كما
يسير الغرب ونفكر كما يفكرون ونلبس كما يلبسون ونأكل كما يأكلون، فإنهم دُعاة
التطور والازدهار. وعلى الضفة الأخرى يقول آخرون بأن التراث هو الأساس في كل شي،
وأن علينا أن نتمسك بتراثنا وأن نترك التقنية والعلوم الحديثة لكي نُكوّن شخصيتنا
العربية ونعيد إلى ثقافتنا شيئا من ماضيها التليد بعيداً عن تأثيرات الغرب
والمجتمع المتمدن.
في الحقيقة لا يمكننا أن نُفرّق بين
الأصالة والمعاصرة، فإذا ما تحدثنا عن الأصالة بمعزل عن المعاصرة فإننا نكون قد
وقعنا في حديث عن الماضي السحيق وإن كان مشرقا، وأوقعنا مجتماعتنا وأجيالنا في
انعزال فكري واضح بدعوى "التمسك بالعادات"، ويؤدي هذا بالتأكيد إلى نقص
الوعي وعدم فهم الحاضر فهما صحيحا وعدم مواكبة التطور العلمي. وإذا ما تحدثنا عن
المعاصرة بمعزل عن الأصالة فإننا سوف نكون في تبعية لكل ما هو جديد دون الرجوع إلى
أساسنا الفكري والعقائدي، فغلبة المعاصرة في زمننا الحالي وبالخصوص لثقافة مثل
ثقافتنا العربية التي لم تواكب العولمة إلا قريبا جدا سوف يؤدي إلى سقوط أبنائنا
في شبهات ومشاكل نحن في غنىً عنها.
وعلى هذا النحو، فإن الربط بين الأصالة
والمعاصرة يتم بأخذ الصالح من التطور والعلم وترك الطالح منها، ويكون ذلك على نحو
واضح وضوابط حددتها الشريعة الإسلامية وحددتها عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة. وأبرز
مثال على ذلك، ما حدث في العهد النبوي الزاهر حينما جاءت التشريعات الإلهية بأخذ
بعض الأحكام التي كانت في أيام الجاهلية كحُرمة الحرب والقتال في الأشهر الحُرم،
وجعلتها تشريعا قرآنياً دون المساس بالتشريعات الإسلامية الأخرى ودون الأخذ بأحكام
جاهلية أخرى مخالفة للتعليمات الإسلامية، وذلك لأن هذا التشريع الجاهلي يتناسب
والفكر الإسلامي.
فنحن حينما ندعو إلى التمسك بالأصالة ومواكبة الحداثة
والمعاصرة، إنما نُريد من أجيالنا أن تكون منفتحة على الثقافات والحضارات الأخرى
دون أن تَنسى حضارتها وفكرها التي نشأت عليه، ونريد من أجيالنا أن تكون مُلمة
بالتقنية الحديثة دون أن تُهمل تراث الأباء والأجداد، بل ونريد من أبناءنا وأجيالنا
أن يكونوا معاصرين وأن يكونوا في الوقت نفسه دعاة إلى الأصالة ومتمسكين بتراث الماضين.
وقد أشاد القرآن الكريم بهذه الفئة حين قال :"فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" [الزمر:
17-18].
رضا بن عيسى اللواتي
في ملحق شباب عمان التابع لجريدة عمان
28/7/2012