ودخلتها لأول مرة !
هذا أول يوم لي في المستشفى كطالب متدرب، ولكن اعتادت
أذني على سماع كلمة "دكتور" من جميع من يعرفني، على الرغم من أنني لا
أفقه إلا القليل في الطب ولكنه كان كافيا لكي أسمع هذه الكلمة الرنانة، كلمة لها
ثقلها ووزنها في المجتمع. مع دخولي المستشفى في قسم الطب الباطني وتجوالي في
أركانه وحديثي مع زملائي وبعض العاملين في المستشفى، استوقفني أحد المرضى والذي
خرج بحثا عن طبيب أو ممرض يحدثه، وعندما رآني صرخ مناديا "دكتوووور .. أريدك
في كلمة صغيرة"، كُنت أول من يلتفت إليه، ربما لأني اعتقدت أن كل من ينادي
"دكتور" فإنه يعنيني دون سواي. ذهبت إليه وقد تملكني الشعور بالفخر
والغبطة. بدأ يحدثني عن حالته الصحية وما حدث له طوال مدة اقامته التي ربما تجاوزت
عشرة أيام واختتمها قائلا "هذا المستشفى غير جيد، هذا هو اليوم العاشر لي
هنا، ولم يخبرني أحد عن حالتي الصحية ولا عن علاجي، سوف أذهب إلى
"تايلند" للعلاج، هناك الوضع أفضل".
لقد سمعت هذا الكلام عدة مرات مُسبقا واعتقدت في الوهلة
الأولى أنه تكرار لجميع الحالات السابقة إلا أن الرجل كان يعني ما يقول، بل كان
يقولها بحرقة قلب وربما تساقطت بعض الدموع من مقلتيه. عندها أدركت أنني لا أستطيع
أن أفعل شيئا أو أن أساعده في شيء، فأخبرته أنني مجرد طالب ولست بطبيب، فشكرني
كثيرا لأنني أصغيت إليه وقال لي وهو يعود إلى سريره "لا تكن كمن سبقك".
لا أدري ماذا عَنى بكلامه هذا، ولكن ربما هي إشارة صغيرة ولكن لها مغزىً كبير سوف
أعرفه مع مرور الأيام.
في الجانب الآخر من الجناح، رأيت رجلا قد شارف على
الثمانين من عُمره وهو جالس على كرسي متحرك يقوده أحد أبناءه بعد أن تشافى والدهم
من جلطة دماغية افقدته الحركة في قدمه اليمنى ويده اليمنى في ذلك الوقت، إلا أنه
الآن وكما يبدو بدأ يُحرك يده اليمنى بعد العلاج الذي قُدم له وظهرت على ملامح
وجهه تعابير أحسست منها أنه خرج لتوه من العذاب إلى النعيم. وسمعت الطبيب يحدثهم
ويحثهم على الالتزام بتعليماته وإلا فإن الرجل قد يعاني من شلل رباعي يفقده كل شي.
المهم في الأمر أن هؤلاء قد خرجوا من المستشفى وهم فرحين مسرورين، وأنا الآخر لم
تفارقني الابتسامة بعد هذا المشهد.
وفي غمرة انغماسي وأنا أشاهد ذلك الموقف، جاءني الطبيب
المسؤول ليُعْلِمَني ببداية الجولة الأسبوعية على المرضى، فذهبت معهم منصتا لما
يقوله الطبيب ويشرحه عن حال المرضى وكيفية علاجهم وأنا مُنتشٍ بهذا، وإذا بي أسمع
صوت بكاء وصراخ من غرفة العزل، رجال ونساء وأطفال، الكل يبكي فقد فقدوا عزيزا لهم،
ولكن لن أنسى صوت تلك المرأة التي صرخت بصوت عالٍ "تباً لكم أيها الأطباء
وتعساُ لكم، بالأمس قتلتم والدنا العطوف واليوم تقتلون والدتنا الحنونة"،
وعادت بعدها للبكاء. ربما كانت لا تعني ما تقول لمرارة الفاجعة الذي أصابتها وما
كان من الأطباء المعالجين إلا تلك الغرفة بعد أن عملوا كل ما بوسعهم وأنهوا عملهم
بتقديم العزاء لهذه الأسرة التي فقدت أحد أعمدتها واتجهوا لعلاج مريض آخر.
يمضي الوقت في المستشفى وأنا مع الفريق الطبي الذي بدأت
بالتدرب معه، ثم محاضرة لأتعلم ما ينفعني في مستقبلي المهني، ثم أعود بعدها إلى
الحديث مع المرضى ومعرفة أسرار مرضهم وفحصهم فحصا دقيقا. وبعد انتهاء دوام اليوم
الأول عدت إلى منزلي فرحا مسروا لأني تعلمت شيئا جديدا، وساعدت مريضا وسمعت شكوى
مريض آخر قد اتعبته مرارة المرض والقت الحمى بسياطه على ظهره الذي تقوّس بفعل
الزمان.
رضا بن عيسى اللواتي
ملحق شباب عمان التابع لجريدة عمان
14/7/2012 ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق