الهندسة الوراثية .. صناعة المستقبل
لقد أمر الله
سبحانه وتعالى الإنسان بأن يتفكر في هذا الكون وفي خلقته، وأن يطلق العنان لعقله
بالتأمل والبحث والاستقصاء حتى يصل إلى كنه عظمة الله سبحانه وتعالى وقدرته في خلق
هذا الكون اللامتناهي، فقال سبحانه وتعالى: "وفي الأرض أيات للموقنين، وفي
أنفسكم أفلا تبصرون" ]سورة الذاريات – الأية 20،21[. وقد حث
القرآن الكريم الإنسان لأن يبحث في نفسه ويتفكر في خلقته التي تتجلى فيها قدرة
الخالق وعظمته فقال الله سبحانه وتعالى: "فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء
دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر" ]سورة الطارق – الآيات 5-8[. وقد عمل
المسلمون الأوائل بهذه الأوامر القرآنية المباركة، فجدوا واجتهدوا في البحث
والتفكر وطلب العلم وعملوا بوصايا النبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم حيث روي
عنه أنه قال: "أطلبوا العلم ولو في الصين".
واستمرت في
هذه البيئة مسيرة العلم في التطور والنمو منذ ذلك الوقت، فكانت مذكرات العلماء الأوائل
وملاحظاتهم وما خطوه بأقلامهم هي البداية، ثم جاءت الأبحاث العلمية لتكمل مسيرة
تطور العلم، وقد تبنى عدد من العلماء بعض النظريات العلمية الدقيقة والتي ساهمت في
تطور الأرض والإنسان. حيث أننا نسمع كل يوم عن إنجاز علمي جديد في مجال أو آخر من
مجالات العلوم المختلفة، ونقرأ عن تطور جديد شهدته الساحة العلمية، ولمسنا الكثير
من هذه الإنجازات خاصة في العقود القليلة الماضية. ومما لا شك فيه أن التطور في
المجالين الهندسي والطبي ساهم كثيرا في زيادة رصيد هذه الإنجازات العلمية، فهذين
المجالين الواسعين قد انتجا معاً ما يُسمى بـ "الهندسة الوراثية" أو
"هندسة الجينات" والتي يُتوقع أن تكون لها مساهمة كبيرة على صعيد العلوم
النظرية والتطبيقية.
ما هي
الهندسة الوراثية؟
يُعرف
العلماء الهندسة الوراثية بأنها "العلم الذي يهتم بدراسة التركيب الوراثي
الجيني DNA
للمخلوقات بشتى أنواعها، لمعرفة كيفية تناقل الصفات الوراثية من جيل إلى آخر، بهدف
التدخل في تلك الصفات في مرحلة لاحقة وتعديلها لإصلاح الخلل الذي قد يطرأ
عليها". ويُعرفها اتحاد العلماء المهتمين بالعلوم الوراثية في موقعهم على
الأنترنت بأن "الهندسة الوراثية هي التقنيات التي تُستخدم لتطوير المواد
الوراثية (الجينات) الموجودة في الخلايا من خلال نقل هذه الجينات إلى كائنات حية
من نفس النوع أو نقلها إلى كائنات حية أخرى لتطوير وتحسين هذه الكائنات. وتعتبر
هذه الوسائل من التقنيات المعقدة المستخدمة لمعالجة المواد الوراثية والحيوية
والكيميائية في الخلايا". (1)
لقد كانت
البكتيريا هي أول الكائنات التي تم التعديل على موادها الوراثية هندسيا وكان ذلك
في العام 1973 للميلاد، ومن خلال ذلك تم انتاج هرمون الإنسولين من هذه البكتريا وتم
لاحقا الإستفادة منه في عملية تسويقية لعلاج مرض السكري، وكانت الفئران هي ثاني
الكائنات الحية التي يتم تعديل جيناتها هندسيا وكان ذلك في العام 1975 للميلاد.
وقد تبع ذلك أبحاثا كثيرة في الهندسة الوراثية جرت على الحيوانات البرية وخاصة
الخنازير.
ما هي خطوات
الهندسة الوراثية؟
من المهم جدا
معرفة الخطوات التي تمر بها الهندسة الوراثية قبل الدخول في تطبيقاتها
واستخداماتها، لأن ذلك سوف يساعد على الفهم الصحيح لهذه التطبيقات والاستخدامات،
ولا أريد الدخول هنا في التفاصيل العلمية الدقيقة لعملية الهندسة الوراثية، ولكن
سوف اتحدث في هذا المقال عن الخطوات الأساسية والمهمة جدا وبشكل مبسط وسهل للغاية
وهي أربعة خطوات رئيسية:
الخطوة الأولى:
يتم خلالها عزل الجين المطلوب استنساخه عن طريق تحديد الجين أو العامل الوراثي
الذي نرغب بإدخاله إلى الخلايا المستهدفة، ويمكن معرفة العامل الوراثي المطلوب استنساخه
عن طريق معلومات سابقة عن المورثات، ومن ثم يتم استنساخه عن طريق عمل نسخ للـ DNA بتفاعلات معينة.
الخطوة
الثانية: يتم خلالها إدخال الجين المستنسخ إلى حامل مناسب مثل الحوامل الفيروسية أو
البلازميدية، وهي كائنات صغيرة لا تُرى بالعين المجردة.
الخطوة
الثالثة: إدخال ما نتج من الخطوة الثانية إلى الخلايا التي يُراد تعديلها.
الخطوة
الرابعة: يتم عزل وفصل هذه الخلايا التي تم تعديلها وراثيا عن الخلايا الطبيعية،
ومن ثم تنشيطها وإجراء عمليات التكاثر عليها.
وبعد الانتهاء
من هذه الخطوات يتم دراسة الخلايا التي تم تعديلها وراثيا بنجاح، ومقارنتها
بالخلايا الطبيعية ومعرفة الفروقات بينهما.
تطبيقات
الهندسة الوراثية:
الحديث عن
تطبيقات الهندسة الوراثية حديث متشعب وطويل جدا، إلا أنه يمكن تلخيص مجالات
استخداماتها كالآتي:
المجال
الزراعي: سابقا كان من الصعب جدا حماية النباتات من الأمراض الفيروسية، فكانت
المحاصيل الزراعية تموت بسرعة كبيرة خصوصا في مواسم انتشار هذه الفيروسات، وكان
المزارعون والعلماء المختصون بالهندسة الزراعية وتطوير المحاصيل الزراعية يقتصرون
في تحصين هذه النباتات من الفيروسات على التخلص من بقايا المحاصيل السابقة التي قد
تكون عائلا للفيروسات، أو استعمال المبيدات الحشرية القاتلة للحشرات التي تقوم
بنقل هذه الفيروسات، وقد كان لهذه الإجراءات نتائج محدودة جدا. ولكن مع نشأة علوم
الهندسة الوراثية وتطورها أصبحت مقاومة النباتات للأمراض الفيروسية أقوى من ذي قبل
وأفضل بكثير، بحيث يتم أخذ عينة من الفيروسات التي تقتل النباتات ويتم تضعيفها بعد
ذلك باستخدام تطبيقات الهندسة الوراثية ومن ثم حقنها في النباتات – كما هو حاصل في
التحصين عند الإنسان – وبالتالي تتمكن النباتات من مواجهة هذه الفيروسات والدفاع
عن نفسها.
إنتاج نباتات
مقاومة للحشرات كان الإنجاز الثاني لتطبيقات الهندسة الوراثية في المجال الزراعي،
حيث يتم بموجبه أخذ بروتينات تنتجها نوع من البكتيريا النباتية، ومن ثم عزلها
وتطويرها ثم وضعها في المبيدات الحشرية، وتساهم هذه المبيدات المحتوية على هذا
النوع من البروتينات في قتل بعض أنواع الحشرات، وقد أثبتت الدراسات أنه لا يوجد أي
تأثير سلبي لهذه المبيدات الحشرية الخاصة على الثديات عند تناولها لهذه النباتات.
المجال
الحيواني: إن أول تطبيقات الهندسة الوراثية في المجال الحيواني كانت انتاج هرمونات
تساعد على زيادة سرعة النمو في الحيوانات، لأهمية ذلك من الناحية التجارية، خاصة
وأنه تم استخدام هرمونات النمو المعدلة في الفئران منذ فترة طويلة وقد أثبتت
جدواها وكفاءتها، ولكن التجارب التي أجريت على الحيوانات الأخرى وبالخصوص الخنزير
لم تعطي نتائج جيدة، فكانت نتائج الأبحاث متضاربة من منطقة لأخرى. ونظرا لما لنجاح
هذا التطبيق من أهمية كبيرة تجاريا فلا زالت المحاولات والأبحاث والتجارب مستمرة
إلى يومنا هذا.
أما التطبيق
الثاني في مجال الإنتاج الحيواني فقد تركز على محاولات لإنتاج حليب بقري شبيه
بالحليب البشري وذلك لتحسين خواص الحليب المقدم لتغذية الأطفال، ولا زالت الدراسات
والأبحاث قائمة في هذا المجال، إلا أنه لم يتوصل العلماء حتى الآن إلى تحضير حليب
بقري مشابه في خواصه للحليب البشري تماما.
المجال
الطبي: لقد استطاع العلماء من خلال الهندسة الوراثية إنتاج هرمون الانسولين
وهرمونات النمو البشري (Growth hormone)، كما استطاع العلماء من خلال
هذه التقنيات الحديثة من صناعة اللقاحات وغيرها من الأدوية. كما استطاع العلماء من
تعديل بعض الجينات المعطوبة من خلال تغيير هذه الجينات بجينات أخرى معدلة وراثيا،
وربما تكون الأمراض المناعية هي أهم الأمراض التي تم فيها الاستفادة من الهندسة
الوراثية لمعالجة المرضى المصابين بها، ومع ذلك فإن هذه العلاجات تتم في مراكز
متخصصة جدا حتى يتم تفادي أي أثر سلبي لهذه العمليات.
كما أن
تطبيقات الهندسة الوراثية تستخدم في تشخيص مختلف الأمراض الوراثية التي تصيب
الإنسان، ومعرفة مدى تأثيرها على مستقبل الفرد من خلالها. كذلك قد يكون باستطاعة
الفرد أن يستخدم الخريطة الوراثية لاختيار زوجة مناسبة أو زوج مناسب لانجاب أطفال
أصحاء في ضوء معلومات مخزنة في بطاقة الكترونية صغيرة.
سلبيات
استخدام الهندسة الوراثية:
من الوهلة الأولى،
يبدو الحديث عن الهندسة الوراثية والتطور الكبير الذي أحدثته رائعا جدا، وأن هذه
التطبيقات سوف تجلب السعادة للبشرية، ولكن وُجد من خلال الأبحاث المستفيضة في هذا
المجال والملاحظات المقدمة من العلماء أن للهندسة الوراثية عددا من المخاطر
والسلبيات فيما لو تمت إساءة استخدام هذه التقنيات الحديثة. فأول هذه المخاطر هي
أن التجارب التي تجري حاليا في مجال الهندسة الوراثية على الرغم من أنها تجارب
مبسطة وغير معقدة، فقد شكلت هذه النقلة النوعية، ولكن ما الذي سوف يحدث إذا ما أجريت
التجارب الأكثر تعقيدا والتي قد تغير الخريطة الوراثية أو التركيب الوراثي
للإنسان، وحيث أنه لا توجد أي دراسات حديثة في هذا المجال فلا يمكن الجزم بنتائج
التجارب المعقدة، والتي قد يكون لها تأثيرات سلبية على الإنسان.
ثانيا، يقول
بعض العلماء أن أي خطأ قد يحدث في إجراء تجارب الهندسة الوراثية فإنه خطأ غير
معكوس أي لا يمكن العودة إلى نقطة البداية، وبالتالي فإن هذه الأخطاء قد تُنتج
سلالات جديدة من المخلوقات الحية نتيجة دمج المواد الوراثية لكائنات مختلفة وهذا
الأمر قد يشكل خطرا على التوازن البيئي للكرة الأرضية.
وقد أجرت
جامعة القاهرة دراسة نشرت نتائجها في جريدة "المصري اليوم" بعددها
الصادر في يوم الأحد بتاريخ 12/8/2012 للميلاد ملخصها أن فئران التجارب التي تناولت
الأطعمة المعدلة وراثيا قد أصابتها أمراض مناعية ومشاكل في الجهاز الهضمي بالإضافة
إلى فقدان قدرتها على الإنجاب وسرعة شيخوختها مقارنة بفئران التجارب التي تناولت
الأطعمة الغير معدلة وراثيا، وهذه النتائج جاءت مطابقة لبعض الدراسات التي أجريت
على فئران التجارب في مختلف دول العالم (2).
الرؤية
الشرعية حول الهندسة الوراثية:
وبسبب وجود
هذه المشاكل والعواقب والأخطار المتوقعة والتي ذكرناها سابقا، كان لابد من معرفة
وجهة النظر الشرعية حول عمليات الهندسة الوراثية لأجل معرفة رأي الشرع في مثل هذه
المواضيع المهمة في ضوء فوائدها العديدة وفي الوقت نفسه سلبياتها الكثيرة. وقد
وجدنا أن علماء الفقه والأصول قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام، فبعضهم يؤيد استخدام
تطبيقات الهندسة الوراثية بجميع أشكالها مهما كانت، باعتبارها وسيلة مهمة لتطوير
المجتمع البشري ومجالا رحبا لطلب العلم خاصة وأنه يمكن الاستفادة منها في علاج
الأمراض المستعصية، وقسم آخر يحرم استخدام تقنيات الهندسة الوراثية باعتبارها
تدخلا غير مرغوب فيما خلقه الله تعالى الذي خلق فسوى، واستنادا لما ورد في القرآن
الكريم على لسان ابليس: "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" ]سورة النساء – الأية 119[، والقسم
الثالث من العلماء يجيز استخدامها في مجالات الخدمة الإنسانية ويحرمها إذا كان
فيها تغييرا لخلقة الإنسان أو الحيوان.
ختاما، ومن
خلال ما استعرضنا حول تطبيقات الهندسة الوراثية وبعض مخاطرها والرؤية الشرعية بخصوصها،
فإن عمليات وتقنيات الهندسة الوراثية قد تؤدي إلى تطور كبير في العلم الحديث كما
هو حاصل الآن، وقد تُحدث نقلات نوعية كبيرة في المجالات المختلفة التي تم تطبيقها
عليها، وما قد يتم تطبيقه مستقبلا، إلا أن الحذر الشديد مطلوب عند استخدام هذه
التطبيقات والذي يجب أن يتم بعد إجراء أبحاث دقيقة ومتأنية حتى تكون في صالح
المجتمع الإنساني والكون بأسره.
نشرت في العدد الثاني من مجلة #شرق_غرب الثقافية العمانية