شهر رمضان يَجْمَعُ النقيضين
من المعروف
أن شهر رمضان المبارك هو شهر تنقية الروح من الشوائب، وشهر تصفية النفس من ملذات
الدنيا والابتعاد عن كل ما شأنه أن يَحُطَ من سمو الروح ويمنع صعودها على مدارج
الكمال. ومن المعلوم أيضا أن الذي ينتهي عليه شهر رمضان المبارك من دون أي تغيير
في روحه ونفسيته فإنه يكون قد خسر الكثير الكثير. فشهر مثل هذا الشهر ليس فقط
للصيام وقراءة القرآن، بل "هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله تعالى" كما
ورد عن رسولنا الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، وعندما يكون أحدنا ضيفا على ملك من
الملوك فإنه يذهب إليه بأحسن حلة وأفضل شكل، فكيف بنا ونحن في ضيافة ملك الملوك
ورب الأرباب، أليس حريا بنا أن نظهر بأفضل حلة ونكون بأبهى زي.
في هذا المضمار، فإن المسلم في هذا
الشهر يُكثر من قراءة القرآن الكريم فكما ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله
وسلم أنه قال: "من تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في
غيره من الشهور". ونرى أيضا مجالس تحفيظ القرآن وتعليمه للجيل الواعد، كما
نرى حلقات شرح القرآن في مساجدنا. ويكثر في هذا الشهر الفضيل زيارة الأرحام
امتثالا لأمر صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه حين تحدث عن هذا الشهر فقال:
"من وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه
رحمته يوم يلقاه". بالإضافة إلى ذلك، فإن بيوت الله يكثر فيها الناس، ويقبلون
بشغف على المساجد ويحيون ليلها ونهارها بالعبادة وقراءة القرآن وحلقات الذكر
والدعاء وغير ذلك. إن كل ما تم ذكره أعلاه هي عادات إيجابية ينبغي المحافظة عليها
من قبل الفرد والمجتمع لما لها من أثر بالغ في حياة الإنسان في الدنيا فضلا عن
الآخرة.
وعلى النقيض تماما، فإن هذا الشهر
المبارك لا يخلو من ممارسات خاطئة كثرت في مجتمعاتنا، وهي في الحقيقة مخالفة تماما
لما كان عليه المسلمون في الصدر الأول من الإسلام. فنرى الآن بأن الإنسان المؤمن
تقل فاعليته ويقل عمله وانتاجه سواء كان انتاجا في العمل أو انتاجه الفكري
والمعرفي في هذا الشهر، فنراه يُكثر من النوم ويقوم بعمله بأقل طاقة لديه فتقل
الطاقة الانتاجية لهذا الفرد، كما تقل أيضا الطاقة الانتاجية والأداء المعرفي
للطالب في المدرسة أو الجامعة.
ولعمري إن هذا لخطأ كبير، فقد كان
المسلمون الأوائل - وهم قدوة لنا - يعملون في شهر الله الكريم، وينجزون أكثر من
انجازهم في الأشهر الأخرى، ولنا مثال واضح المعالم حول هذا، ففي هذا الشهر بالذات
خاض المسلمون أول معركة كبيرة مع أعدائهم من قريش وهي معركة بدر الكبرى ولا حاجة
لنا في الدخول إلى تفاصيلها الدقيقة. بيد أن هذه المعركة كانت في شهر رمضان
المبارك، وربما كانت ممارسة الصبر عمليا في الميدان من أكبر الفوائد التي تجلت من
خلال حدوث المعركة في هذا الشهر، فهم كانوا يكتوون بنار الصيام ونار المعركة، ومع
ذلك صبروا وانتصروا في نهاية المطاف، وهذا درس مهم نتعلمه من هذه المعركة.
الأمر الآخر الذي يُلاحظ انتشاره في هذا
الشهر المبارك، هو أصناف الطعام والشراب التي توضع على مائدة الإفطار إلى حد
الإسراف والتبذير وقد نهى الله تعالى عنهما حين قال في القرآن المجيد: "وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"، وقال رسوله
الكريم صلى الله عليه واله وسلم: "إياكم وفضول المطعم فإنه يسم القلب
بالفضلة، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة، ويصمّ ُالهمم عن سماع الموعظة". ما يحدث
الآن من وضع أصناف منوعة من الطعام – ربما أكثر من الشهور الأخرى – مخالف لهدف
الصيام وهو الإحساس بمعاناة الفقراء والمساكين ومن لا عهد لهم بالشبع ولا طعم لهم
بالقُرص. وكما يعلم جميعنا قول النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم: "صوموا
تصحوا"، والذي تعلمناه في مدارسنا، فلا غرو أن يكون الإسراف منافيا ومخالفا
لأمر النبي صلى الله عليه والحكمة من الصيام في هذا الشهر المبارك.
الجدير بالذكر، أن العلم الحديث قد أشار
إلى أن الإسراف في تناول الطعام عند الإفطار وما بعده له من السلبيات الكثير والتي
يظهر تأثيرها على الجسم مع مرور الوقت، ويذكر المختصون أنه يفضل الإكتفاء بالطعام
المناسب عند الإفطار ثم وجبة قبل الذهاب إلى النوم بثلاثة ساعات ومن ثم وجبة أخرى
وقت السحور. ونصيحة أخصائي التغذية هي الإكثار من شرب الماء وأكل الفواكه والخضروات
والمواد التي تحتوي على الحبوب بدلا من الطعام الملئ بالمواد الدهنية المضرة
بالصحة.
الأمر الأخير الذي أود ذكره، هو الإدمان
على مشاهدة التلفاز، ومن بينها المسلسلات المتنوعة وبرامج المسابقات، وللأسف فإن
المنتجون يستغلون هذا الشهر أيما استغلال من خلال الكم الغفير من المسلسلات التي
تُبث في هذا الشهر، وكأن شهر رمضان المبارك قد وُجد لمشاهدة التلفاز بل والإدمان
عليه. إن بعض هذه المسلسلات قد تدخل في إطار "ما يُحرم مشاهدته"، كما
يقضي الفرد في متابعة المسلسل تلو المسلسل ولا يقوم من مقامه إلا ووقت الإفطار قد
دخل، وقد تُلهيه هذه المسلسلات عن وقت الصلاة، وليت شِعري أي شقاء أكثر من هذا
الشقاء وأي فائدة يجنيها الإنسان من متابعة المسلسلات "الغير هادفة" فينطبق
عليه قول النبي صلى الله عليه واله وسلم: "إن الشقي حق الشقي من خرج من هذا
الشهر ولم يُغفر ذنوبه"، ويقول أيضا: "فمن لم يُغفر له في رمضان ففي أي
شهر يغفر له؟!".
نعم، هناك بعض المسلسلات والبرامج
الهادفة، وبعض القنوات المحبذ مشاهدتها في كل حين وآن. وهي التي يجب على الإنسان أن
يحاول مشاهدتها والاستفادة منها قدر المستطاع ليكون قد تحصل على فائدة تضاف إلى
الفوائد التي يتحصل عليها في هذا الشهر المبارك.
ختاما، إن هذا الشهر هو شهر الحصول على
الجوائز من الله تبارك وتعالى، وهو شهر الحصول على المغفرة والرضوان والفوز بالجنة
فالشياطين فيه مغلولة وأبواب الجنان فيه مفتوحة، فعلينا جميعا أن نتسابق ونتنافس
لبلوغ أسمى الدرجات، فهذا هو أفضل التنافس وهو قول الله تعالى: "وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ". وكل عام والجميع بخير.
رضا بن عيسى اللواتي
مسقط – سلطنة عمان
نشرت في صحيفة البلد الالكترونية وجريدة الرؤية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق