2016/03/02

أعط دما وأنقذ حياة

أعط دما وأنقذ حياة

نشر في مجلة شرق غرب في العدد التاسع - فبراير 2016



تتجدد بين الحين والآخر نداءات بنوك الدم في السلطنة باحثة عن قطرات من دم قد تساعد في إنقاذ حياة مصاب في حادث مروري أو مريض بالثلاسيميا، أو آخر أجريت له عملية جراحية استنزف أثناءها الكثير من دمه. ولتحقيق هذا الهدف النبيل، تقوم بنوك الدم في السلطنة بالعديد من الحملات في مختلف أنحاء البلاد تهدف إلى توعية المجتمع بأهمية وضرورة التبرع بالدم. وعلى الرغم من أن معظم هذه الحملات تلقى إقبالا ملحوظا وتجاوبا لا بأس به من المواطنين والمقيمين، ولكن يبدو أنها لا تحقق الهدف المنشود، إذ لا تزال هذه البنوك تعاني من نقص في مخزونها من كميات الدم، وبحاجة ماسة إلى المزيد من الدم لتلبية الإحتياجات المتزايدة لاسيما في الحالات الناتجة عن حوادث المركبات التي تتسبب في إصابة عدد كبير من الأشخاص.

ولاشك أن وزارة الصحة بالتعاون مع مستشفى جامعة السلطان قابوس وغيرها من المؤسسات الصحية التابعة لمختلف القطاعات في الدولة تبذل جهودا مشكورة من أجل ضمان توفير الكميات المطلوبة من الدم ووضع آليات سلسة للتبرع والفحص والتخزين والتوزيع من خلال إنشاء بنوك دم متعددة في جميع أنحاء السلطنة، حتى تسهل عملية إيصال الدم إلى المستشفيات في مختلف ولايات ومحافظات السلطنة. وقد خلصت دراسة نُشرت في العام 2010م في المجلة الأسيوية لعلوم نقل الدم، أن السلطنة كونت نظاما ممتازا يعد الأفضل في المنطقة من حيث نقل الدم الآمن بعد إجراء الفحوصات عليه والتأكد من خلوه من الأمراض المعدية، ومن ثم نقله إلى المريض، وكل ذلك عن طريق التبرع بالدم التطوعي من قبل المواطن أو المقيم. ولا يخفي أن بدايات عملية التبرع بالدم كانت تتم بمقابل مادي أو هدايا عينية لتشجيع المجتمع على التبرع بالدم.

قد يتساءل البعض، لماذا هذا التركيز المستمر على التبرع بالدم، ولماذا هذه الحملات الكثيرة والتطوعية من أجل حث الناس على التبرع بالدم، وما هي فوائد التبرع بالدم؟. وكذلك تساؤل عن أسباب محدودية الدم الموجود في بنوك الدم والنقص المستمر في الدم على الرغم من هذه الحملات؟. وفي هذه المقالة سوف أحاول الرد على بعض هذه الأسئلة، والحديث عن هذا الموضوع بإسهاب.

قبل الشروع في الحديث عن التبرع بالدم، لا بأس من أن نعرف ما هي مكونات الدم وسيكون ذلك مدخلا مهما لموضوع هذه المقالة. الدم عبارة عن سائل أصفر اللون يسمى البلازما (Plasma)، ويحتوي هذا السائل على بروتينات، هرمونات، أجسام مضادة، بالإضافة إلى كريات الدم الحمراء التي تحتوي على الأكسجين وكريات الدم البيضاء والصفائح الدموية. ومصدر كريات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية هو نخاع العظم.

بعد أن تعرفنا على مكونات الدم، نأتي للسؤال الأهم، وهو لماذا نتبرع بالدم؟. وللإجابة على هذا السؤال، استعنت بموقع منظمة الصحة العالمية (WHO)، فوجدت فيه جوابا أرى أنه هو الأنسب والأكثر دقة. تقسم منظمة الصحة العالمية المحتاجين إلى الدم إلى عدة أقسام، أولا: ضحايا الحوادث سواء أكانت حوادث السيارات أو ضحايا الحروب والدمار والكوارث الطبيعية، بالإضافة إلى اللذين تجرى لهم عمليات جراحية يكون فيها نزيف الدم كثيرا، وكذلك النساء الحوامل اللواتي يواجهن مضاعفات خطيرة في حملهن، وتشترك هذه الشريحة من الحالات بوجود نزيف شديد للدم يستدعي تبرعا بالدم. ثانيا: مرضى الثلاسيميا وأنيميا الخلايا المنجلية وهم من أكثر المرضى المحتاجين إلى عمليات نقل الدم، بسبب حاجتهم المستمرة لها، بسبب الخلل الحاصل في جيناتهم الوراثية المسؤولة عن انتاج الهيموجلوبين. وكما هو معلوم فإنه لا يمكن تخزين الدم لفترات طويلة، فيلزم التبرع المستمر حتى تتم تغطية النقص الحاصل فيه.

ولا نغالي إذا قلنا أن كل قطرة دم قد تنقذ حياة إنسان، إلا أن المتبرع بالدم أيضا ينال ثواب كرمه في الدنيا قبل الآخرة. إن أول فائدة وأهم فائدة يجنيها المتبرع بالدم هو حصوله على فحص اكلينيكي مجاني، أي فحص الضغط ودقات القلب وغيرها، ثم يطمئن على أن نسبة الهيموجلوبين في دمه طبيعية من خلال فحص عينة من الدم المتبرع به، بالإضافة إلى فحص العينة للتأكد من خلوها من الأمراض المعدية. كما أن عملية التبرع بالدم تفيد في تنشيط الدورة الدموية حيث يقوم نخاع العظم بالعمل على إعادة ما فقده الإنسان بعد عملية التبرع بالدم. كما يتم إعادة التوازن إلى كمية الحديد الموجودة في الجسم بعد عملية التبرع، وهذا الأمر مفيد جدا لصحة الإنسان.
قد يتسائل البعض، متى يُعوض الدم المفقود؟، كما أسلفنا سابقا بأن الدم ينقسم إلى عدة أقسام، فالسائل البلازمي يتم تعويضه مباشرة خلال 12-72 ساعة، بينما يتم تعويض البروتينات الموجودة في الدم خلال 3-4 أيام، أما كريات الدم الحمراء فإنها تأخذ 120 يوما أي 4 شهور تقريبا لأجل تعويضها، ولذلك لا يُنصح بالتبرع بالدم إلا كل 4 شهور.

وفي السلطنة، تنظم الجهات المعنية سلسلة من الحملات التطوعية التي تقام بين فترة وأخرى من أجل نشر ثقافة التبرع بالدم. وما عنوان المقالة إلا شعارا لإحدى هذه الحملات التي قامت في هذا المجال والتي ساهمت بشكل أو بأخر بزيادة عدد المتبرعين بالدم ولو جزئيا. ووفق إحصائية نشرتها وزارة الصحة العمانية في كُتيب إحصائياتها السنوي لعام 2014م تفيد بأنه قد زاد عدد المتبرعين بالدم بين عامي 2012 و2014م، ولكن على الرغم من ذلك فإن العدد لا يزال قليلا إذا ما قورن بالوحدات التي يتم رفضها بسبب الأمراض المعدية أو بسبب نقص في الهيموجلوبين لدى المتبرع المفترض.

فالرقم ]57.750[ وهو عدد المتبرعين خلال الفترة المذكورة هو رقم متدني بالمقارنة بعدد سكان السلطنة والذي كان يقارب الـ 4 ملايين نسمة وفق إحصائية عام 2014م، والمأمول هو بذل المزيد من الجهد لزيادة عدد المتبرعين في كل عام، لنصل إلى النتيجة المرجوة والعدد الكافي من وحدات الدم القادرة على سد النقص الحاصل في مختلف محافظات السلطنة.

ومن أجل تحليل هذا الوضع، ومعرفة أسباب عزوف البعض عن تلبية هذا النداء الإنساني في السلطنة سواء المواطن أو المقيم، قمت بالبحث عن ما إذا ما كانت قد أجريت دراسات لتقييم الوضع، ولماذا لا يقوم الناس بالتبرع بالدم بشكل منتظم، إلا أنني وللأسف الشديد لم أجد إجابة شافية لتساؤلاتي. لكني وجدت دراسة أجريت في المملكة العربية السعودية، والتي من الممكن أن تقدم بعض الإجابات على هذا السؤال.

ذكرت هذه الدراسة السعودية والتي أجريت تحت عنوان "وعي مجتمع المناطق الوسطى من السعودية بالتبرع بالدم" والتي نُشرت في المجلة الدولية للطب الباطني في عام 2014م، حيث أجريت فيها مقابلات مع قرابة 470 شخصا من كلا الجنسين. وحسب الدراسة فإن حوالي 50% من هؤلاء قد سبق لهم التبرع بالدم، بينما أجاب الباقي بأنهم لم يتبرعوا، وذلك أما بسبب ضيق الوقت أو بسبب الخوف من مضاعفات التبرع بالدم. وأرجعت الدراسة التعذر بسبب ضيق الوقت والذي كان رد غالبية الذكور الذين شملتهم الدراسة، أرجعته إلى طبيعة المجتمع السعودي واستحواذ الوظيفة والعائلة على معظم وقت الرجل، مما لا يترك المجال للذهاب إلى مراكز التبرع. أما بالنسبة للإناث فقد ذكرت الدراسة سببين أساسيين لعزوفهن عن التبرع بالدم، الأول هو عدم قدرتهن على قيادة السيارات لمسافة طويلة وذلك بسبب القوانين المعمول بها في المملكة، والسبب الثاني هو خوفهن من إصابتهم بنقص في الدم.

وإذا إستحضرنا الأسباب المذكورة، وحاولنا إسقاطها على الحالة في السلطنة، نجد بأن معظمها ينطبق عليها أيضا، عدا عدم القدرة على قيادة السيارة بالنسبة إلى النساء. فالخوف من عملية التبرع بالدم نفسه أو الخوف من الآثار الجانبية للتبرع يبدو لي من خلال طبيعة عملي واحتكاكي بالمرضى وأهاليهم ومعارفهم أنه أحد الأسباب الرئيسية لعزوف الناس عن التبرع بالدم في عمان. كذلك فإن التعذر بضيق الوقت بالنسبة للرجال بالفعل يشكل عائقا أمام سلاسة حركة التبرع بالدم في السلطنة. ويمكن أن نضيف إلى تلكم الأسباب سببا آخر ألا وهو إنتشار أمراض الدم الوراثية ومرض ضغط الدم والسكري عند الكثير من المواطنين والمقيمين والتي لا تسمح لهم بالتبرع بالدم.

وأستخلصت الدراسة المذكورة أعلاه إلى وجوب العمل على إقامة ندوات تعريفية وحملات دعائية حول التبرع بالدم، لجذب أكبر عدد من المتبرعين بالدم وسد النقص الحاصل. وهذا الأمر الذي نشاهده في سلطنة عمان كثيرا، من خلال الحملات التوعوية التي تنظمها الجهات المعنية في مختلف محافظات وولايات السلطنة بهدف إجتذاب أكبر عدد من المتبرعين  ومن ثم الحصول على أكبر كمية ممكنة من الدم. كذلك فإن وحدات التبرع بالدم المتنقلة التي تزور المتبرع في مكان عمله لم تدع لعامل ضيق الوقت مبررا مقبولا لتلبية هذا النداء النبيل.

من هذا المنبر، أوجه دعوة عامة لجميع أبناء الوطن والمقيمين على أراضيه بضرورة التبرع بالدم بين فترة وأخرى، حتى نكون عونا للمرضى والمحتاجين لنقل الدم في كل وقت وآن. كما أتمنى من المختصين إجراء بعض الدراسات لاستكشاف المزيد من أسباب ضعف الإقبال على التبرع بالدم في السلطنة، حتى تقدم على أساس نتائجها الحلول والمقترحات المناسبة لضمان إستمرارية الحياة للمحتاجين لهذا السائل الثمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق