2012/07/28

بين الأصالة والمعاصرة .. صراع دائم



بين الأصالة والمعاصرة .. صراع دائم

          كثيرا ما تم استخدام مصطلح "الأصالة والمعاصرة" في حديث الأدباء والمفكرين وتمت الإشارة إلى هذين المصطلحين في مواضيع وأبحاث عديدة، وكتب عنها الباحثون وأشارت إليها الأقلام، وعُقدت من أجل شرحها الندوات. ولكن يبدو أن الكثير من هؤلاء المحللين والباحثين لم يستطعوا إيجاد التناغم بينهما، فأخذوا ببيان تناقضهما وبيان البعد الشديد بينهما والهوة العميقة التي تفصلهما، بل وتحدث بعضهم وأشار إلى استحالة إيجاد التوافق بين "الأصالة والمعاصرة".
          ولو جئنا إلى الأصالة بمعناها اللغوي البحت نجد أنها كل ما يتصل بالماضي من عادات وتقاليد ومواريث، بينما تُعرف المعاصرة على أنها كل ما هو جديد ويلازم التطور والازدهار. ومن خلال المعنى اللغوي للكلمتين، يبدو أنه من الصعوبة بمكان إيجاد التوافق والتلازم بينهما، بالخصوص بعد بزوغ عصر التكنولوجيا والتطور وعصر الحريات والديموقراطية في حياة الشعوب. ولكن السؤال المطروح "هل يمكن الجمع بين الأصالة والمعاصرة في إطار واحد؟" وهذا السؤال عادة ما يتكرر بعد كل حوار وندوة أو مناظرة، دون الحصول على إجابة واضحة وصريحة.
          لقد قيل قديما أن الأمة التي ليس لها ماضٍ ليس لها حاضر ولن يكون لها مستقبل، وهي معادلة صحيحة جدا، فكيف لأمة لم يكن لها إنجازات فيما سبق ولم تُعرف قبل الآن وليس لها عادات وتقاليد أن يكون لها حاضر فضلاً عن وجود مستقبل لأبنائها. فما نراه في واقعنا الحالي من أمم كانت مُشردة في سالف الأزمنة ومن دون إنجازات سابقة وليس لها عادات تحكمها، هي لا تستطيع بناء حاضرها بناءً راسخاً صلباً يضمن لها تطورها ونموها في المستقبل. على العكس تماما، فإننا نجد الأمم التي عاشت ماضيها وهي أمم منتجة مُنجزة ولها عادات وتقاليد راسخة ورثتها لأبناءها وأجيالها اللاحقة فإن لها حاضر مضيء ومستقبل يمكن التكهن بحاله، كحال أمتنا العربية وإن كانت تعيش حالياً تحت أنقاض ماضيها المجيد إلا أن الربيع العربي قد يعيد لها بعضا من رونقها وجمالها.
          في مقابل ذلك، فإن التطور الحاصل في شتى مجالات الحياة، وأبرزها التطور العلمي والتقني، والسرعة الشديدة التي تزدهر فيها العلوم والتقنيات وغيرها، تجعلنا نقف أمام مصطلحات الحداثة والانفتاح على الثقافات الأخرى وأفكار الطرف الأخر. فلا يمكن لنا أن نبقى في أخر السباق متخلفين عن بقية الأمم بحجة الأصالة والعادات والتقاليد.
          وقد أخذ المفكرون والباحثون في هذا المجال باستعراض أبحاثهم وأفكارهم فبعضهم يقول أنه إذا أردنا أن نتطور ونلحق بركب العلماء والباحثين فإن علينا أن نترك تراثنا وعاداتنا جانبا ونسير بخطىً حثيثة كما يسير الغرب ونفكر كما يفكرون ونلبس كما يلبسون ونأكل كما يأكلون، فإنهم دُعاة التطور والازدهار. وعلى الضفة الأخرى يقول آخرون بأن التراث هو الأساس في كل شي، وأن علينا أن نتمسك بتراثنا وأن نترك التقنية والعلوم الحديثة لكي نُكوّن شخصيتنا العربية ونعيد إلى ثقافتنا شيئا من ماضيها التليد بعيداً عن تأثيرات الغرب والمجتمع المتمدن.
          في الحقيقة لا يمكننا أن نُفرّق بين الأصالة والمعاصرة، فإذا ما تحدثنا عن الأصالة بمعزل عن المعاصرة فإننا نكون قد وقعنا في حديث عن الماضي السحيق وإن كان مشرقا، وأوقعنا مجتماعتنا وأجيالنا في انعزال فكري واضح بدعوى "التمسك بالعادات"، ويؤدي هذا بالتأكيد إلى نقص الوعي وعدم فهم الحاضر فهما صحيحا وعدم مواكبة التطور العلمي. وإذا ما تحدثنا عن المعاصرة بمعزل عن الأصالة فإننا سوف نكون في تبعية لكل ما هو جديد دون الرجوع إلى أساسنا الفكري والعقائدي، فغلبة المعاصرة في زمننا الحالي وبالخصوص لثقافة مثل ثقافتنا العربية التي لم تواكب العولمة إلا قريبا جدا سوف يؤدي إلى سقوط أبنائنا في شبهات ومشاكل نحن في غنىً عنها.
          وعلى هذا النحو، فإن الربط بين الأصالة والمعاصرة يتم بأخذ الصالح من التطور والعلم وترك الطالح منها، ويكون ذلك على نحو واضح وضوابط حددتها الشريعة الإسلامية وحددتها عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة. وأبرز مثال على ذلك، ما حدث في العهد النبوي الزاهر حينما جاءت التشريعات الإلهية بأخذ بعض الأحكام التي كانت في أيام الجاهلية كحُرمة الحرب والقتال في الأشهر الحُرم، وجعلتها تشريعا قرآنياً دون المساس بالتشريعات الإسلامية الأخرى ودون الأخذ بأحكام جاهلية أخرى مخالفة للتعليمات الإسلامية، وذلك لأن هذا التشريع الجاهلي يتناسب والفكر الإسلامي.
فنحن حينما ندعو إلى التمسك بالأصالة ومواكبة الحداثة والمعاصرة، إنما نُريد من أجيالنا أن تكون منفتحة على الثقافات والحضارات الأخرى دون أن تَنسى حضارتها وفكرها التي نشأت عليه، ونريد من أجيالنا أن تكون مُلمة بالتقنية الحديثة دون أن تُهمل تراث الأباء والأجداد، بل ونريد من أبناءنا وأجيالنا أن يكونوا معاصرين وأن يكونوا في الوقت نفسه دعاة إلى الأصالة ومتمسكين بتراث الماضين. وقد أشاد القرآن الكريم بهذه الفئة حين قال :"فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" ‏[‏الزمر‏:‏ 17-18‏]‏.


رضا بن عيسى اللواتي
في ملحق شباب عمان التابع لجريدة عمان
28/7/2012

2012/07/14

ودخلتها لأول مرة



ودخلتها لأول مرة !

هذا أول يوم لي في المستشفى كطالب متدرب، ولكن اعتادت أذني على سماع كلمة "دكتور" من جميع من يعرفني، على الرغم من أنني لا أفقه إلا القليل في الطب ولكنه كان كافيا لكي أسمع هذه الكلمة الرنانة، كلمة لها ثقلها ووزنها في المجتمع. مع دخولي المستشفى في قسم الطب الباطني وتجوالي في أركانه وحديثي مع زملائي وبعض العاملين في المستشفى، استوقفني أحد المرضى والذي خرج بحثا عن طبيب أو ممرض يحدثه، وعندما رآني صرخ مناديا "دكتوووور .. أريدك في كلمة صغيرة"، كُنت أول من يلتفت إليه، ربما لأني اعتقدت أن كل من ينادي "دكتور" فإنه يعنيني دون سواي. ذهبت إليه وقد تملكني الشعور بالفخر والغبطة. بدأ يحدثني عن حالته الصحية وما حدث له طوال مدة اقامته التي ربما تجاوزت عشرة أيام واختتمها قائلا "هذا المستشفى غير جيد، هذا هو اليوم العاشر لي هنا، ولم يخبرني أحد عن حالتي الصحية ولا عن علاجي، سوف أذهب إلى "تايلند" للعلاج، هناك الوضع أفضل".

لقد سمعت هذا الكلام عدة مرات مُسبقا واعتقدت في الوهلة الأولى أنه تكرار لجميع الحالات السابقة إلا أن الرجل كان يعني ما يقول، بل كان يقولها بحرقة قلب وربما تساقطت بعض الدموع من مقلتيه. عندها أدركت أنني لا أستطيع أن أفعل شيئا أو أن أساعده في شيء، فأخبرته أنني مجرد طالب ولست بطبيب، فشكرني كثيرا لأنني أصغيت إليه وقال لي وهو يعود إلى سريره "لا تكن كمن سبقك". لا أدري ماذا عَنى بكلامه هذا، ولكن ربما هي إشارة صغيرة ولكن لها مغزىً كبير سوف أعرفه مع مرور الأيام.

في الجانب الآخر من الجناح، رأيت رجلا قد شارف على الثمانين من عُمره وهو جالس على كرسي متحرك يقوده أحد أبناءه بعد أن تشافى والدهم من جلطة دماغية افقدته الحركة في قدمه اليمنى ويده اليمنى في ذلك الوقت، إلا أنه الآن وكما يبدو بدأ يُحرك يده اليمنى بعد العلاج الذي قُدم له وظهرت على ملامح وجهه تعابير أحسست منها أنه خرج لتوه من العذاب إلى النعيم. وسمعت الطبيب يحدثهم ويحثهم على الالتزام بتعليماته وإلا فإن الرجل قد يعاني من شلل رباعي يفقده كل شي. المهم في الأمر أن هؤلاء قد خرجوا من المستشفى وهم فرحين مسرورين، وأنا الآخر لم تفارقني الابتسامة بعد هذا المشهد.

وفي غمرة انغماسي وأنا أشاهد ذلك الموقف، جاءني الطبيب المسؤول ليُعْلِمَني ببداية الجولة الأسبوعية على المرضى، فذهبت معهم منصتا لما يقوله الطبيب ويشرحه عن حال المرضى وكيفية علاجهم وأنا مُنتشٍ بهذا، وإذا بي أسمع صوت بكاء وصراخ من غرفة العزل، رجال ونساء وأطفال، الكل يبكي فقد فقدوا عزيزا لهم، ولكن لن أنسى صوت تلك المرأة التي صرخت بصوت عالٍ "تباً لكم أيها الأطباء وتعساُ لكم، بالأمس قتلتم والدنا العطوف واليوم تقتلون والدتنا الحنونة"، وعادت بعدها للبكاء. ربما كانت لا تعني ما تقول لمرارة الفاجعة الذي أصابتها وما كان من الأطباء المعالجين إلا تلك الغرفة بعد أن عملوا كل ما بوسعهم وأنهوا عملهم بتقديم العزاء لهذه الأسرة التي فقدت أحد أعمدتها واتجهوا لعلاج مريض آخر.

يمضي الوقت في المستشفى وأنا مع الفريق الطبي الذي بدأت بالتدرب معه، ثم محاضرة لأتعلم ما ينفعني في مستقبلي المهني، ثم أعود بعدها إلى الحديث مع المرضى ومعرفة أسرار مرضهم وفحصهم فحصا دقيقا. وبعد انتهاء دوام اليوم الأول عدت إلى منزلي فرحا مسروا لأني تعلمت شيئا جديدا، وساعدت مريضا وسمعت شكوى مريض آخر قد اتعبته مرارة المرض والقت الحمى بسياطه على ظهره الذي تقوّس بفعل الزمان.



رضا بن عيسى اللواتي
ملحق شباب عمان التابع لجريدة عمان
14/7/2012 ...

2012/07/01

مقالة "مواقف المستشفى السلطاني .. نظرة إلى الواقع"



مواقف المستشفى السلطاني .. نظرة إلى الواقع

كثر الحديث حول الازدحام المروري الشديد الذي تعاني منه محافظة مسقط في ظل النمو العمراني والحضاري بها، والذي أدى إلى تزايد كبير لعدد السكان في العاصمة. لكن في المقابل، يقل أو يكاد ينعدم الحديث حول عدم توافر مواقف السيارات في الأماكن العامة، والذي هو في الأساس نتيجة حتمية لهذا التطور. في الحقيقة، تعد مشكلة عدم توافر مواقف السيارات من المشاكل التي تؤرق مضاجع السائقين، خصوصا إذا كان السائق من محافظة أخرى غير محافظة مسقط وهم أيضا كُثر، حيث لا يستطيع هذا السائق استخدام وسيلة نقل اخرى غير سيارته الخاصة كبديل لتفادي أزمة المواقف.

ما دفعني لكتابة هذا المقال هو الحال الذي وصلت إليه مواقف السيارات في المستشفى السلطاني، والذي يعد من المستشفيات المرجعية في السلطنة. التقدم الذي وصل إليه هذا المستشفى في أساليب تقديم الخدمات الصحية والتطور في نوعية المعدات الطبية لم ينعكس إيجابيا على  الحال في مواقف السيارات. والزائر لهذا المستشفى المرجعي يرى الكثير من المخالفات المرورية التي جاءت نتيجة عدم وجود أماكن لإيقاف السيارات. فمع ازدياد أعداد المراجعين يومياً ومع حضور زوارهم ومرافقيهم، بالإضافة إلى تواجد الكادر الإداري والطبي والتمريضي للمستشفى تتحول مواقف السيارات إلى "صالة عرض" للسيارات ولكن بطريقة غير حضارية.

ما نشاهده في الباحة الرئيسية للمستشفى السلطاني كل يوم هو وقوف السيارات في منتصف الطريق، أو وقوفها فوق الأرصفة المختلفة، وتواجدها في مداخل ومخارج الطرق، بل يصل الحال إلى وقوف بعض المراجعين أو زوارهم خارج المستشفى - أي في الطرقات - لعدم توفر مواقف كافية لاحتواء هذا العدد الهائل من سيارات المراجعين والذي يزداد يوما بعد يوم.

قد يقول البعض أن لهذه المشكلة أوقاتا للذروة، أما في بقية اليوم فالأمر لا يتعدى وقوف سيارة أو سيارتين في منتصف الطريق. إنني هنا لا أنكر أن ما وصفته في الأعلى يكون معظم الأحيان في أوقات الذورة، ولكن لأجل راحة وسلامة المرضى ومرافقيهم يجب أن تُحل هذه المشكلة. فالمريض وأهله لا يستطيعون الإنتظار طويلا للحصول على موقف لمركبتهم. وكم مرة حاولت وحاول غيري المرور في مواقف السيارات دون أن يخدش سيارة أو يضع بصمة على أخرى بسبب تراكمها في المخارج والمداخل ولكن دون جدوى! وكم مرة رأيت على سيارتي وعلى سيارات أخرى وربما رأى غيري خدشاَ على سيارته بسبب وقوف سيارة في مكان خاطئ أدت إلى إغلاق المسار على السيارات الأخرى، وكل ذلك بسبب عدم توفر مواقف كافية في باحة المستشفى.

حل هذه المشكلة ليس سهلا، ولكنه في نفس الوقت ممكن للغاية. فجعل المواقف ذات طوابق ثلاثة أو أربعة، مع وجود مبلغ مادي رمزي يتم دفعه حال الخروج من المستشفى سوف يقلل من مشكلة المخالفات المرورية وسوف يجعل منظر المستشفى من الخارج حضارياً أكثر من ذي قبل. وهنا قد أجد معارضة من طلب وجود مبلغ مادي رمزي يُدفع وقت الخروج من المستشفى، ولكن ما أريده وأتمناه أن لا يتم الاكتفاء بالمبلغ المالي، بل يزيد المبلغ المدفوع كلما زادت مدة مكوث الزائر في المستشفى، فالحاصل أن الكثير من أهالي وزوار المرضى يجلسون في المستشفى إلى وقت متأخر بعد انتهاء وقت الزيارة، وهذا الأمر يؤدي إلى حدوث فوضى وجلبة في أجنحة المستشفى، الذي يجعل من عملية متابعة المرضى ومراجعتهم أثناء المناوبة الليلية أمرا صعبا للغاية.

في النهاية، مشكلة مواقف السيارات في المستشفى السلطاني بحاجة إلى حل ناجع وسريع، فالأمر يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وأتمنى من المسؤولين النظر جديا في هذا الموضوع لسوء توابعها ولما فيه المصلحة العامة.


رضا بن عيسى اللواتي
جريدة الرؤية .. السبت 30/6/2012