2015/07/08

حتى لا نكتوي بناره !!!!

حتى لا نكتوي بناره !!!!


لم تكد تمضِ أسابيع قليلة على الإنفجارات التي هزت بعض المساجد في المملكة العربية السعودية الشقيقة، وأراقت دماء زكية بريئة لنفوس لم يكن ذنبها سوى أنها لبت نداء “حي على الصلاة”، حتى تكرر المشهد نفسه في دولة شقيقة أخرى وهي دولة الكويت، زهقت فيها نفوس مؤمنة. لم يحترم من خطط ونفذ لإخراج هذا المشهد حبل التواصل الممدود بين الضحايا وبين خالقهم وهم سجود في صلاتهم ليوم الجمعة وفي شهر الله، فتناثرت دماؤهم وأشلاؤهم وارتفعت أرواحهم إلى بارئها متسائلة بأي ذنب قتلت. ونحن أيضا نتسائل بأي ذنب أزهقت هذه النفوس.
ما حدث قبل أيام كان متوقعا حدوثه ليس في الكويت فحسب بل في أي مكان في العالم. ففي ظل الجو الملوث بكافة أنواع الشحن المذهبي والطائفي البغيض العابر للقارات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والسكوت المريب إن لم يكن مساهمة بعض الحكومات والمؤسسات في خلق هذا الجو الملوث، كان لابد لبعض العقول المتحجرة وبعض الأفكار السوداء أن تجد حاضنة مناسبة لتفرخ فيها وتنمو وتترعرع وتتجرد من أدنى مظاهر الإنسانية، فتتحول إلى غول طائفي ومذهبي شرس يقتات على أشلاء البشر وينهل من دمائهم، بحيث لا يفرق بين مذهب ومذهب أو دين ودين أو قبيلة وقبيلة أو مسجد وكنيسة ورقص، والكارثة المفجعة أن الغول المتمثل بهيئة البشر، والبشر منه براء، يزداد ضخامة وتوحشا وفتكا رافعا راية الإسلام الذي لم يدخل قلوب الناس إلا بالحكمة والموعظة الحسنة.
لو تمعنا قليلا في الأحداث الأخيرة، لوجدنا أن معظمها وقعت في أيام الجمعة، أي في يوم عبادة المسلمين وفي وقت واحد تقريبا وهو وقت صلاة الجمعة، وهو اليوم الوحيد من أيام الأسبوع الذي خصه الله سبحانه وتعالى بسورة في القرآن الكريم واختصه بصلاة خاصة به، في حين أن مجزرة مسجد الكويت وقعت في شهر رمضان المبارك. لذا وفي سياق هذه الحيثيات، من الغبن الشديد بل ومن الطامة الكبرى أن يصدق المرء بأن من قام بهذه الجرائم مسلم أو موحد أو حتى إنسان، لأنه حتى الحيوان في الغابة لا يقتل إلا إذا لم يجد ما يسد به جوعه، فكيف لمسلم أن يتجرأ لقتل مسلم في مكان مقدس وفي يوم مقدس وفي شهر مقدس وفي ضيافة الواحد الأحد. ليس هذا فحسب بل يحدث هذا باسم الإسلام وتحت راية الإسلام وبتكبيرة الإسلام. أي منطق هذا الذي يدعون وأي إسلام يعتنقون.
من الصعوبة بمكان، أن تُقدم فئة ما على عمل كهذا من دون أن يكون لها فكر نظري يؤسس لمثل هذه الأعمال، ويُنظر لها. وعندما أتحدث عن الأساس النظري والتنظير لهذا الفكر، لا أعني فئة دون أخرى، ولو رجعنا إلى تُراثنا الإسلامي لوجدناه لا يخلو من مشاهدَ العنف والقتل والدمار التي حدثت بين فترة وأخرى، ووجد من يدعو إليها بل وينظر لها. بل إن البعض منهم إدعى ولا زال أن الإسلام انتشر بالذبح، وهذا ما نسمعه في خطاباتهم ونقرأه في بياناتهم كقولهم “والصلاة والسلام على رسول الله الذي بعث “بالسيف” رحمة للعالمين”. لعمري كيف يكون القتل والذبح رحمة للعالمين. إلا أن هذه الجماعات المحسوبة على الإسلام وللأسف، تأبى إلا أن تعتنق القتل والذبح والتنكيل لنشر دعواهم زورا وبهتانا باسم راية إسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بُعث رحمة للعالمين. فنراهم يتفننون في ابتكار وسائل وأساليب مرعبة للقتل والذبح والتنكيل لنشر الرعب والخوف بين البشر لا بل وحتى الشجر والحجر. وللأسف فقد وجد هؤلاء في بعض كتب التراث وفي فتاوى بعض علماء الفتنة مصادر للتنظير لأفكارهم التكفيرية وزودتهم بمبررات ففقهية مضلله لنشرها بتلك الأساليب التي أقل ما يقال عنها أنها لا إنسانية. وبالتالي فإن منابع هذا الإجرام وأهدافه المختلفة لا تمت إلى الإسلام بصلة لا من قريب ولا من بعيد، وإنما يتم استغلال الإنفعال الطائفي والمذهبي المنتشر في المنطقة مثل النار في الهشيم.
لذا نرى أن معالجة هذا البلاء يتم عن طريق حلول تُعطي الوقاية وتُقدم العلاج. من أهم الحلول لمواجهة هذه الأفكار والمعتقدات الضالة هو تنقية التراث الإسلامي من الإسرائيليات الإرهابية الدخيلة على دين الرحمة والتسامح. فوجود هذا الكم الهائل من الروايات والنصوص والأقوال والأحداث في التراث الإسلامي التي تدعو إلى العنف وإلغاء الغير وتكفيره بأي وسيلة كانت، كفيل بأن يشكل رافدا قويا لفئة فنها القتل، وهوايتها الذبح، وهويتها حز الرقاب.
وما أحوجنا اليوم إلى اجتماع الأمة وتوحيد جهودها من مشرقها إلى مغربها، لتنقية هذا التراث الجم من الشوائب التي  دخلت عليه سواء عن قصد أو غير قصد، عن طريق غربلة وتنقيح هذا التراث من الموضوعات. لا سيما وأن العقود القليلة الماضية شهدت موجات عنيفة من التكفير والتفسيق ابتداء من فتاوى الدم التي احترف على إصدارها علماء لا ينتمون إلى أمة إقرأ بل لا شك ولا ريب ينتسبون إلى أمة إذبح، وانتهاءً بالتراشق والتلاسن والسب على قنوات الفتنة بين من يدعون العلم وهم ليسوا إلا أباليس لفظتهم جهنم لشدة مرارة لحومهم.
إن الفتاوى التكفيرية والطائفية والمذهبية التي يصدرها علماء أعمتهم العصبية الجاهلية وشكلت الإسرائيليات الإرهابية الدخيلة على الدين الحنيف منهلا لمعتقداتهم أو غررت بهم الدولارات المشبعة برائحة البترول، مزقت حتى الآن أوصال أكثر من تسع دول عربية وإسلامية والحبل على الجرار. ولا أدري أية صعقة كهربائية أشد من تلك التي نكتوي بها الآن لكي نصحو وننقذ ما يمكن إنقاذه من البشر والحجر والشجر، والحمد لله فإن جهود بعض العقلاء في الأمة من حكام وساسة وعلماءدين ومثقفين، تشكل حتى الآن عنصر وقاية من الانحدار التام نحو العنف المذهبي المتبادل وإن كانت بوادر هذا الانزلاق تلوح في الأفق. وبالفعل فقد تنبه بعض المثقفين إلى هذه الحقيقة المرة، وبدأوا يرسلون رسائل تحذير من خلال كتاباتهم ومؤلفاتهم ولا بأس أن أشير هنا إلى رواية “فئران أمي حصة” للكاتب الكويتي سعود السنعوسي، والتي أنهيت قراءتها تزامنا مع تفجير مسجد الإمام الصادق في حي الصوابر بالكويت.
والسؤال المطروح والذي يفرض نفسه على من تبقى من عقلاء هذه الأمة حكاما ومحكومين، علماء دين ومثقفين وأثرياء ومعدومين، هل ننتظر جريان أنهار الدماء في شوارع عواصم ما تبقى من دولنا؟ هل ننتظر تجزئة ما تبقى من المجزء من دولنا؟ هل ننتظر تحويل ما تبقى من شعوبنا إلى سكان مخيمات اللاجئين في أوطانهم؟ ألا يكفي ما أنتجته أيدينا في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن من دمار وخراب؟ هل نريد أن نرى كل ما أنجزناه في العقود الماضية من تطور في العمران والبنية التحتية وشتى مجالات الحياة، هل نريد أن نرى كل ذلك ينهار أما أعيننا قاعا صفصفا؟ متى سنفهم أن الدمار إن حل في مكان فلن يفرق بين أبيض وأسود، بين قبيلة وأخرى، بين غني وفقير، إنه سوف يجرف الجميع بلا استثناء. إلى متى سنقف مكتوفي الأيدي ونحن نشاهد سونامي الإرهاب الجارف يقتلع بلدانا بأكملها على طريق طنجة جاكرتا.
حقا يحز علينا نحن في دول الخليج خاصة، أن نقف متفرجين ونحن نشاهد بأم أعيننا بلداننا، واحات الأمن والأمان، تتعرض لموجة إرهاب يقف أمامه الصهاينة والمغول والتتار خجلا لأنهم على فظاعة ما ارتكبوه لم يصلوا إلى مستوى إرهاب تتار ومغول عصرنا الذين صنعناهم وغذيناهم وللأسف بأيدينا ورميناهم في أحضان الصهيونية، فماذا نحن فاعلون إذاً لوقف هذا الزحف، وما دورنا لحماية دولنا من الخراب والدمار، والمحافظة على منجزاتنا من الضياع.
إن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرت وتمر بها الأمة أوجدت في نفس كل واحد منا إرهابيا صغيرا ينتظر الأرضية الخصبة لينمو ويكبر. وليس شرطا أن تسلم لهذا الإرهابي سكينا أو بندقية ليفرغ بها شحنات الكبت والمعاناة  ضد الأبرياء، بل يكفي أن تلعب بعقله ليصبح صاحب فكر إقصائي تكفيري، صاحب فكر يُنظر للإرهاب ويقتات عليه. لذا فإن الدول والحكومات مطالبة بتصحيح الأوضاع، الأمر الذي سوف يساعد كل واحد منا لأن يتخلص من هذا الإرهابي الصغير الذي يقيم في نفسه أو على الأقل يوقف نموه الذي يعمل على إذكائه دون كلل بعض علماء الفتنة وعبيد المال ونافخوا الكير وبعض القنوات الفضائية.
وهنا يبرز دور العلماء الربانيين الأجلاء لتوجيه وتثقيف المجتمعات وتنقية أفكارهم وتقويمها بما يتفق مع تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. ولا ننسى دور الأسرة في هذا السياق وما يمكن أن تشكله من سد منيع يحول دون إنحراف الأجيال نحو طريق الفتنة والمذهبية والطائفية وإقصاء الآخر.
لقد كان حضرة صاحب الجلالة حفظه الله كعادته سباقا إلى الدعوة لتجنيب البلاد والأمة ويلات ما تمر به حاليا، فقد حذر صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – في إحدى كلماته السامية عندما قال: “إن التزمت في الفهم الديني لا يؤدي إلا إلى تخلف المسلمين، وشيوع العنف وعدم التسامح في مجتمعاتهم. وهو في حقيقة الأمر بعيد عن فكر الإسلام الذي يرفض الغلو، وينهى عن التشدد، لأنه دين يسر، ويحب اليسر في كل الأمور. وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام إذ يقول: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) وليس بعد حديث الرسول من مقال”.
النقطة الأخرى التي يجب التركيز عليها هو حب الوطن والمواطنة. فها هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يربط حب الوطن بالإيمان فيقول: “حب الوطن من الإيمان”، فلنتخذ هذا الحديث الشريف عنوانا لحياتنا، وطريقا نتبعه في كل وقت وآن. وحق لي أن استشهد بمقولة لصاحب الجلالة السلطان قابوس – أيده الله – في هذا المضمار إذ يقول في إحدى خطبه السامية: “ومن ثم فإن على كل مواطن أن يكون حارسا أمينا على مكتسبات الوطن ومنجزاته التي لم تتحقق كما نعلم جميعا إلا بدماء الشهداء، وجهد العاملين الأوفياء، وألا يسمح للأفكار الدخيلة التي تتستر تحت شعارات براقة عديدة، أن تهدد أمن بلده واستقراره، وأن يحذر ويحذر من هذه الأفكار التي تهدف إلى زعزعة كيان الأمة، وأن يتمسك بلب مبادئ دينه الحنيف وشريعته السمحة التي تحثه على الالتزام بروح التسامح والألفة والمحبة”.
فإن أي مشكلة ستصيب الوطن، سأكون أنا أول المصابين بهذه المصيبة، أما الذين يعيشون معي في هذا الوطن، أتفقنا أم اختلفنا فهم إخواني وأقاربي وجيراني، عرضهم عرضي، وما يؤذيهم يجب أن يؤذيني. هذه هي المواطنة، أن نكون يداً واحدا في مواجهة كل تطرف وغلو، وأن لا نسمح للأفكار المنحرفة بأن تدخل بيوتنا ومجالسنا ومجتمعاتنا.
وفي الحقيقة فإن مواقف حضرة صاحب الجلالة حفظه الله وسياسات حكومته الرشيدة ومنذ فجر النهضة المباركة رسمت لعماننا الحبيبة لوحة فسيفساء رائعة لم توفر أية مساحة للتعصب والطائفية والمذهبية وإنما تزينت بأجمل ألوان المواطنة والحب والأخوة والتعايش واحترام الآخر. ووسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية النزيهة تتسابق في تقديم شهادات التقدير والاحترام لما تتمتع به السلطنة من بيئة يحسدنا عليها الكثيرون والتي ما كانت لتتوفر لولا حكمة عاهل البلاد المفدى والتلاحم المخلص بين الوطن والمواطن.
لا شك أن الإرهاب الذي هز دولة الكويت الشقيقة والضحايا الأبرياء الذين سقطوا، أدمعت عيوننا وأدمت قلوبنا، ولكن المواساة كانت في التلاحم الذي ظهر بين الحكومة ومختلف فئات الشعب الكويتي. وما موقف سمو أمير الكويت الذي وصل إلى موقع الحدث والدموع في عينيه وهو يردد “هذول عيالي”، إلا دليلا على عمق العلاقة والمحبة بين أمير البلاد وشعبه. لقد تعاضد أبناء الشعب الكويتي، وأنصهر الجميع بمختلف طوائفهم وقبائلهم ومناطقهم تحت راية الكويت وفي بوتقتها. ورأينا كيف كان التشييع والدفن مهيبا. كل ذلك سدد ضربة مميتة للإرهاب ووقف حائلا دون تحقيق أهداف الفكر التكفيري التي كانت متوقعة من هذا العمل الإرهابي ألا وهو خلق الفتنة بين مكونات الشعب الكويتي، الأمر الذي نزل بردا وسلاما واطمئنانا ليس على قلب الشعب الكويتي بل أبناء الخليج كلهم.
هذا هو المطلوب منا جميعا، الوحدة الوطنية، والتعاضد والتكافل بين أبناء الوطن الواحد. إنه كفيل بتحقيق الوحدة بين الأمة جميعها، ويجب أن يكون هذا التلاحم والتعاضد في جميع الظروف والأوقات والأزمنة، في الحرب والسلم، في السراء والضراء، في حالة الخوف أو في حالة الأمن، فكلنا معرضون لمثل هذه الأفعال الإجرامية، وكلنا في مرمى الخطر دون استثناء، فالإرهاب أيا كان مصدره ولونه، فإنه لا دين له ولا إنسانية ولا مذهب ولا أخلاق ولا ضمير.
وللأسف إنما يجري على أرضنا العربية والإسلامية، يقرح القلوب، ويدمع العيون، فالمآسي كثيرة، والشهداء والجرحى أكثر، والمعاناة شديدة. ترى ماذا يُراد لنا من كل ما حصل ويحصل، وإلى أين سنصل؟ ولكن كلي يقين بأن الوحدة الوطنية هي الحل، فإن كنا متحدين كالجسد الواحد فسنصمد كالبنيان المرصوص، وإن تفرقنا لا قدر الله فالسقوط مآلنا. نسأل الله أن يكشف هذه الغمة عن هذه الأمة إنه سميع مجيب.

2015/06/20

مستقبل الطب بين تحدي المرض وتقدم العلم

مستقبل الطب بين تحدي المرض وتقدم العلم




"دراسة علمية تبشر بعلاج لمرض السكري"، هكذا عنونت إحدى المواقع الالكترونية صفحتها الرئيسية بخط عريض. كان هذا الخبر الأكثر انتشاراً وقراءة في ذلك اليوم. اكتشاف لا شك أنه مهم جدا في عالم الطب، فعلاج مرض السكري الذي كان صعبا بل مستحيلا قبل عدة سنوات، أصبح اليوم قريب المنال. العلم يتطور في كل يوم، بل وفي كل ساعة حيث يكتشف العلماء شيئا جديدا لم يخطر على بال أحد من قبل، وما كان مستحيلا بالأمس، أصبح اليوم واقعا. والحقيقة إن تطور العلم ليس مقتصرا على الطب فحسب، بل يشمل مختلف مجالات الحياة، من علوم الأرض إلى علوم الفضاء مرورا بعلم النبات والحيوان والفيزياء والكيمياء وغيرها.

إلا أن العلوم الصحية والطبية كان لها النصيب الأوفرمن الاهتمام من قبل القائمين عليها والباحثين في أغوارها. فقد شهد حقل العلوم الصحية والطبية خلال السنوات القليلة الماضية تطورات وإنجازات على قدر كبير من الأهمية، حيث توالت اكتشافات وإستنتاجات تُبشر بمستقبل مشرق وواعد في مواجهة الأمراض المستعصية، ورفع كفاءة الحياة (quality of life) للمرضى المصابين بأمراض مزمنة، بالإضافة إلى الوقاية من الأمراض. وقد تحقق كل ذلك على الرغم من التحديات الطارئة التي يواجهها العلماء مع ظهور أمراض جديدة لم تكن متواجدة سابقا من قبيل مرض إيبولا (Ebola)، أو انتكاسات في علاجات تم إكتشافها سابقا.

ولو أردنا الإسهاب في الحديث عن هذه الإنجازات والاكتشافات فهي كثيرة ومتنوعة. فبعضها سلطت مزيدا من الضوء على تشخيص بعض الأمراض وأخرى على التوصل إلى علاجات لأمراض كانت حتى الأمس القريب ميؤوس من علاجها. والجدير بالذكر أن بعض هذه الاكتشافات لا زالت في طور التجربة ولم يتم تطبيقها على أرض الواقع. وفي هذا المقال سوف أسلط الضوء على عدد من هذه الاكتشافات والإنجازات الطبية، وسوف أتناول بشيء من التفصيل إثنتين من هذه الاكتشافات الطبية والتي أراها مهمة نظرا لأنها تتعلق بأمراض يعاني منها المجتمع العماني وسوف تكون في حال تطبيقها بشرى خير للمرضى ومصدر عون للعاملين في قطاع الصحة في السلطنة.

نستهل المقال بالموضوع الأبرز، ألا وهو علاج مرض السكري، حديث الساعة في الأوساط العلمية والطبية. مرض السكري الموصوف بالقاتل الصامت يزداد إنتشارا. حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن ما يقرب من 350 مليون شخص في العالم مصابون بمرض السكري، منهم 34 مليون شخص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية فإن نسبة الإصابة بمرض السكري في سلطنة عمان بلغت 8% من مجمل السكان بنهاية العام 2013 أي ما يقارب 150 الف حالة.

ولا شك أن هذه الأرقام المهولة والمفزعة، دفعت العلماء والباحثين للإستماتة في سبيل إيجاد حلول وعلاج لمرض السكري. فارتفاع نسبة السكر في الدم يؤدي إلى مضاعفات خطيرة قد تصل إلى الوفاة بصورة غير مباشرة. ولهذا السبب عمل الباحثون في جامعة هارفارد على مدى 15 عاما متواصلة حتى استطاعوا تحويل الخلايا الجذعية لخلايا مشابهة للبنكرياس لتقوم بوظيفة البنكرياس في حالة فشله ألا وهو إفراز الانسولين. وبموجب هذا الإكتشاف يتم حقن هذه الخلايا في البنكرياس فتقوم باستشعار كمية السكر في الدم، وبناءً عليه تقوم بإفراز الكمية المناسبة من الانسولين. وقد أختبرت هذه الخلايا على حيوانات التجارب وأثبتت نجاحها، ولكنها بحاجة إلى بعض الوقت ليتم تطبيقها على الإنسان. الجدير بالذكر أن المرضى المتوقع إستفادتهم من هذا العلاج في حالة نجاح تجربته على الإنسان هم مرضى السكري بنوعه الأول.

إن نجاح هذا العلاج على الإنسان في ما لو تحقق، سوف يؤدي إلى شفاء الملايين من البشر من مرض السكري وبالتالي إنقاذهم من الموت البطيء الذي يسببه إرتفاع نسبة السكر في دم الإنسان وفي الوقت نفسه تخلصهم من شبح إبرة الأنسولين اليومية. وغني عن القول بأن البشرية سوف توفر مبالغ طائلة تنفقها الآن على علاج المرضى المصابين بالسكري من دواء واختبارات ناهيك عن المبالغ والجهد الذي يصرف على علاج المضاعفات التي يسببها هذا المرض للمبتلين به.

الأورام الخبيثة، من منا يجهلها أو يجهل المصائب التي يعاني منها ضحاياها من البشر، ففي كل يوم نسمع عن إكتشاف ورم خبيث من نوع جديد. وفي الحقيقة فإن هذه الأورام السرطانية تشكل معضلة حقيقية للأطباء والباحثين نظرا لكونها متنوعة ونسبة الشفاء منها قليلة على عكس بقية الأمراض المزمنة، وأثارها تبقى لفترة طويلة قد تمتد لنهاية عمره. كذلك فإن علاج الأورام السرطانية يشكل عبئا إجتماعيا واقتصاديا كبيرا على الدولة والمجتمع نظرا لإرتفاع تكلفة علاجه وطولها.

أحد أنواع هذه الأورام هو الورم النقوي المتعدد (Multiple myeloma) الذي يصيب الخلايا البلاسمية في الدم، وهي الخلايا المسؤولة عن الدفاع عن الجسم في حالة مهاجمة الفايروسات له. وبحسب الإحصائيات الواردة من الولايات المتحدة الأمريكية فإن كل 6 اشخاص من 100 الف شخص يصابون بهذا المرض سنويا، وتبلغ حالات الوفاة نصف هذا العدد، في حين أن معدل بقاء المصابين بهذا المرض على قيد الحياة لـ5 سنوات قادمة بعد الإصابة بالمرض تبلغ 45% فقط.

وفي هذا الصدد، أجرت عيادة مايو كلينيك (Mayo clinic) الشهيرة تجربة على شخصين مصابين بالورم النقوي المتعدد، وذلك من خلال حقنهما بفايروس الحصبة الذي يستخدم للتطعيم ضد الحصبة، وتم حَقن المريضين بكمية مركزة جدا تكفي لتطعيم 100 مليون شخص. وقد استجاب المريضان لهذا العلاج، واختفت الخلايا السرطانية، وشفي أحد المريضين من هذا المرض وبقي جسمه خاليا من الخلايا السرطانية لمدة 6 أشهر. أما المريض الآخر فلم يستجب للعلاج تماما مثلما حدث للأول، ولكن تدمرت أجزاء كبيرة من الخلايا السرطانية في جسده. ويُذكر أن المريضان لم يستجيبا لأي علاج آخر يعطى في مثل هذه الحالات، مما أضطر بفريق البحث أن يجري هذه التجربة عليهما.

ولا يزال البحث مستمرا لمعرفة المزيد عن علاقة فايروس الحصبة بالأورام السرطانية، وكيف أثر فايروس الحصبة على الخلايا السرطانية في الجسم. علما أن الاستنتاج الأولي من خلال هذه التجربة هو أن فايروس الحصبة قد نبه خلايا المناعة في الجسم على وجود أجسام سرطانية يجب مهاجتمها وتدميرها. وإلى الآن لا يمكن الجزم بأن الورم النقوي المتعدد يمكن معالجته والقضاء عليه عن طريق الحقن بفايروس الحصبة، ولكن منطلق  القول أن بداية الغيث قطرة، فقد يتمكن العلماء بعد هذه التجربة من اكتشاف علاقة بعض الأورام الأخرى بفايروس الحصبة أو فايروسات أخرى.

وجدت مجموعة من العلماء في كلية الطب بجامعة هارفارد أنه بزيادة مادة NED في فئران التجارب التي تقدمت بها السن، عاد عمل عضلاتها وهيكلتها الداخلية إلى ما كانت عليه سابقا. وبهذه التجربة يريد العلماء معرفة مدى إمكانية  تجديد عمر عضلات شخص في الـ60 من العمر وإعادتها إلى عمر الـ20 عاما بتطبيق الأسلوب نفسه. نتائج هذه الدراسة إن نجح تطبيقها على الإنسان فلربما تساهم في زيادة العمر الافتراضي له.

جاء في دراسة نُشرت في صحيفة الجارديان البريطانية، أن علماء من الولايات المتحدة الأمريكية تمكنوا من انتاج خلايا شبيهة بالخلايا المسؤولة عن الذاكرة في الدماغ وذلك عن طريق تحويل الخلايا الجذعية بإضافة بعض المواد الكيميائية عليها. والمعروف أن الخلايا المسؤولة عن الذاكرة والموجودة في الدماغ تموت أولا مع بداية مرض الزهايمر. كان الهدف من هذه الدراسة هو معرفة مدى إمكانية زراعة هذه الخلايا في دماغ مريض بالزهايمر، بالتالي التوصل إلى إيجاد علاج مناسب لمرض الزهايمر. وفيما يبدو أن الفريق القائم بهذا البحث قد استنسخ عددا كبيرا من الخلايا، ولكن لا تزال إمكانية زراعة هذه الخلايا في دماغ مريض بالزهايمر مستحيلة في الوقت الراهن وتحتاج إلى مزيد من البحث والتجارب.

هل يمكن وضع حد لمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)؟ طُرح هذا السؤال المهم جدا في مؤتمر حول مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) والذي أقيم في اتالانتا العام الماضي. وقد كان الجواب مؤثرا عندما قالت الدكتورة ديبورا من جامعة جونس هوبكنس الأمريكية بأن الإحتمال قائم بشكل كبير لوضع حدٍ لهذا المرض الخطير الذي قضى حتى الان على الملايين من البشر. حيث ذكرت أن مستشفى جامعة جونس هوبكنس الإمريكي استطاع أن يقضي على مرض الإيدز في طفل حديث الولادة كان المرض قد انتقل له عن طريق والدته المصابة بالمرض ونتيجة عدم حصولها على الرعاية اللازمة أثناء فترة الحمل، لم يتمكن الفريق الطبي من اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقاية الطفل من المرض أثناء الحمل. وبعد ولادة الطفل قام الأطباء بحقنه بثلاثة أدوية مستخدمة في علاج مرض الإيدز خلال الـ30 ساعة الأولى بعد الولادة، ولاحظ الأطباء بعد شهر من ولادة الطفل بأن عدد نسخ الفايروس في جسم هذا الطفل وصلت إلى نسبة غير مقروءة بالجهاز. واستمر الأطباء في علاج هذا الطفل لمدة سنتين ونصف السنة، حتى لاحظوا أختفاء جميع علامات المرض من جسم الطفل.

هذه الاكتشافات والتجارب التي ذكرتها أعلاه هي غيض من فيض، ولا يتسع المجال هنا لذكر كل ما توصل إليه العلم الحديث، ولكن يبدو أننا مقبلون على ثورة كبيرة في المجال الطبي في السنوات القليلة القادمة خصوصا مع تطور التكنولوجيا وتطور أساليب البحوث وزيادة نسبة نشر البحث العلمي في العالم.


نشرت في مجلة #شرق_غرب الثقافية العمانية في عددها السادس (يونيو-يوليو 2015).

2015/06/09

خربشات مواطن .. بين الأنواء المناخية، وأنواء أزمة المياه في مسقط

خربشات مواطن .. بين الأنواء المناخية، وأنواء أزمة المياه في مسقط




قبل 8 أعوام وتحديدا في 6/يونيو/2007م تعرضت بلادنا الحبيبة لأنواء مناخية لم تتعرض لمثلها منذ عقود مضت، وقد خلفت تلك الأنواء أضرارا جسيمة لم تقتصر على الممتلكات فحسب وإنما أودت بحياة عدد لا بأس به من المواطنين والمقيمين، ودمرت بعض مقومات البنية التحتية للبلاد. لقد أظهرت تلك الظروف التي مرت بها البلاد عجز المؤسسات المعنية والمنوط بها التصرف في مثل هذه الحالات، أظهرت عجزا غير مسبوق في التعاطي مع الآثار التي خلفتها تلك الأنواء. وقبل هذا وذاك لم تأخذ في الحسبان وهي تخطط لمشاريع البنية التحتية السجل المناخي للسلطنة الذي يحمل بين دفاته ذكريات عن أنواء مناخية أصعب من تلك التي نحن في حضرتها.

ولكن وكما يقول المثل “رب ضارة نافعة”، فقد تمخض من هذا التقصير والعجز، ولا نشك أنهما كانا مقصودين بل ربما كانا نتيجة خطأ في الحسابات، تمخض عنهما ملحمة وطنية رائعة تمثلت في تكاتف وتعاون قل نظيره بين مختلف فئات المجتمع العماني من مواطنين ومقيمين والمؤسسات الوطنية المعنية بالتعاطي مع مثل هذه الحالات من الهيئات والوزارات ومؤسسات القطاع العام والخاص ووسائل الإعلام والأجهزة الأمنية. لقد كان هذا الحدث الاستثنائي بمثابة إختبار للشعب العماني حقق فيه نجاحا منقطع النظير في التماسك والتكاتف والتلاحم على كافة المستويات عَكَسَ مدى حبهم لهذه الأرض المعطاء. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى عادت الأرض كما كانت عليه تقريبا قبل تلك الأنواء المناخية في أغلب الأماكن المتضررة.

لقد انصهرت الطبقية والمذهبية والمناطقية واختلاف الأفكار والآراء في بوتقة حب الوطن مُخَلفة أروع نموذج للمواطنة والأخوة والانتماء وأجمل صورة لأروع تلاحم بين الحكومة والمواطن والتي جاءت ترجمة وحصادا لما دأب قائد هذا الوطن المفدى – حفظه الله – على زرعه في نفوس أبناءه منذ أن تولى مقاليد الحكم في البلاد.

لم تكد العاصفة أن تهدأ والسماء أن تستعيد زُرقتها والمياه أن تنحسر، حتى بدأت ورشة العمل في مختلف محافظات السلطنة وولاياتها لحصر الأضرار التي خلفتها هذه الحالة الاستثنائية التي مرت بها البلاد، وبدأ أخوة الوطن في مسح وجرد الأضرار، ومعرفة حجم الخسائر، وتسابق الصغير قبل الكبير، والفقير قبل الغني والمواطن والمقيم في مد يد العون إلى إخوانهم الذين تضررت ممتلكاتهم.

كما رأينا جهود الجميع رجالا ونساءً، صغارا وكبارا في إعادة الحياة إلى طبيعتها في أسرع وقت ممكن، وفعلا عادت معظم المناطق المتضررة إلى سابق عهدها بل وأفضل من ذلك في فترة زمنية قياسية. ولكن، وكما قال الشاعر: “لكل شئ إذا ما تم نقصان”، فإن فرحتنا بهذه الملحمة الكبيرة لم تكتمل حتى الآن، لأن هناك أخوة لنا في بعض المناطق التي تأثرت بتلك الأنواء المناخية لم تتم معالجة أوضاعهم حتى تاريخه ولا زالوا يسكنون في بيوت غير ثابتة، وكأن العاصفة مرت بهم بالأمس فقط. هؤلاء جزء من تلكم الملحمة التي تحدثنا عنها وبالتالي يحق لهم أن يتساءلوا، لماذا هذا التأخير؟، وما هو السبب في عدم إعادة الإعمار في تلكم المناطق إلى هذا الوقت المتأخر؟ نرجوا أن لا يطول انتظارهم وتكون فرحتهم قريبة بإذن الله.

لا شك أن الشعوب الناحجة تتعلم من أخطائها وسلبيات بعض إجراءاتها وقراراتها وسياساتها، ولا ضير في أن نتعلم من أخطائنا، ونكون على استعداد تام لمواجهة الأخطار سواء أكانت من فعل الطبيعة أم من صنع البشر وما أكثرها هذه الأيام وما أسرع تكرارها.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فلا بأس أن نشير إلى أزمة المياه التي تعيشها العاصمة مسقط هذه الأيام. فها هم معظم سكان ولايات مسقط قد دخلوا أسبوعهم الثالث وهم يستعينون بالرمضاء من النار، أي بأصحاب التناكر من شح المياه ولكن مجبر أخاك لا بطل. 

وهنا وبعد مرور خمس وأربعين عاما من عمر النهضة المباركة، أليس من حق المواطن أن يتسائل أين الخطط الطارئة والإجراءات البديلة للتعاطي مع مثل هذه الحالات، خاصة وأن بلادنا الحبيبة ونتيجة لما يشهده العالم من التغيير المناخي عُرضة للأنواء المناخية أكثر من أي وقت مضى. كذلك فالمنطقة والعالم بأسره يشهد حالة غير عادية من عدم الاستقرار والحروب العبثية.

لا شك أن الزيارة التي قام بها عدد من المسؤولين لمحطة الغبرة يوم أمس للاطلاع على سير العمل في المحطة الجديدة بالغبرة والإجراءات التي تبنوها ونرجو أن يتم تنفيذها، لا شك أنها خطوة جيدة وإن جاءت بعد صمت طويل ومعانات طويلة من قبل سكان مسقط. والمطلوب الآن العمل على وضع خطط طوارىء لمختلف الأوضاع الطارئة التي قد تواجهها البلاد سواء لمواجهة آثار الأنواء المناخية أو الأعطال الطارئة في مصادر المياه والكهرباء والطرق، لا سيما في ظل توفر محطات عائمة لتحلية المياه وتوليد الكهرباء.

ختاما، يجب أن تكون هنالك وقفة حازمة وصارمة لمحاسبة المقصرين، أفرادا كانوا أو مؤسسات، في أزمة المياه الراهنة أو أي تهاون قد يسبب أزمة ومعاناة للمواطن في أي ناحية من مناحي الحياة اليومية التي أفنى قائد هذه المسيرة المباركة – أطال الله في عمره – في سبيل توفير كافة سبل العيش الكريم للمواطن أين ما كان على هذه الأرض المباركة. إذ أنه من المعيب بعد مرور خمس وأربعين عاما من النهضة المباركة والإنجازات الكبيرة التي تحققت أن يكون السؤال الثاني عند لقاء مواطنين – في العاصمة مسقط – بعد السؤال عن الصحة والأولاد، عندكم ماي؟ كما كتب أحدهم في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي .

نشرت في جريدة الحدث العمانية

2015/05/31

من أجل عمان

من أجل عمان
لا يكاد يمر علينا يوم من دون أن نسمع بتفجير إرهابي في مكان ما من أرضنا العربية الإسلامية الغالية، حتى نُفاجأ بتفجير إنتحاري آخر في أرض عربية أخرى، وكأنما قد قُدر لنا أن نعيش وسط الانفجارات والحروب والويلات. ما خلفه “الربيع العربي” على الأمة العربية والأمة الإسلامية من مصائب ومحن لا يخفى على أحد أبدا، والناجي الوحيد من مخلفات هذا “الربيع” هو من استطاع أن يُبعد نفسه ويعزلها عن هذه الفتن التي يمر بهذا الإقليم.
مثل هذه الأحداث المأساوية حدثت في زمن غابر، في عصور وسطى، وُصفت لاحقا بعصور الظلام، في القارة الأوروبية، وتصارع الناس هناك باسم الدين وباسم المسيحية، فهذا بروستانتي وهذا كاثوليكي، وكلاهما لا يتفقان في الاعتقاد والطريقة والمنهج، فاختلفوا فكريا ثم سياسيا، ومن ثم انتهج الفريقان طريق الذبح والحرب، حتى قُتل منهم الكثير والكثير، وأغلب من قُتل لا ناقة له ولا جمل فيما يحصل، ولما تيقن الجميع أن الدين طريق للعيش وليس طريقا للموت والقتل، انتهت الحروب الدائرة، حتى وصلوا إلى ما هم عليه الآن.
عصور الظلام في أوروبا انتقلت إلينا بعد عدة قرون، وها هي نبوءة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تتحقق حينما قال: “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع”، وها نحن نعيش عصور الظلام باسم الدين والإسلام، والإسلام بريء مما يحصل. فهذه الحروب قد أهلكت الحرث والنسل ولا زالت تُهلك منهم الكثير، وليس هنالك من معتبر.
لقد أقبلت الفتن إلينا كقطع الليل المظلم، تبتلع برياحها العاتية الأخضر واليابس، ولأجل أن نجابه هذه الفتن ونتحداها، علينا أن نتحد ونقف صفا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، هنا في عمان، التي ما زالت عصية على التطرف والتعصب والغلو منذ الأزل، لأنها تمسكت بمبادئ التسامح والرحمة التي جاء بها الإسلام، واتحد أبناء الشعب العماني، بجميع قبائله، وأطيافه، ومناطقه تحت راية واحدة، لم تفرقهم الشحنات الطائفية، والأراء الفكرية، والتجاذبات السياسية.
عندما نشأت عمان الحديثة، أراد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه لهذه الدولة أن تستمر فأعلنها مدوية: “إن المجتمعات التي تتبنى فكرا يتصف بالتشدد والتطرف والغلو إنما تحمل في داخلها معاول هدمها ولو بعد حين”، ثم اتبعها – أيده الله – : “إن التطرف مهما كانت مسمياته، والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته، نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أبدا أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق”.
وإننا كمواطنين في هذه الأرض الطيبة، يجب علينا أن نستفيد مما جرى في العالم المحيط بنا، وأن نوحد جهودنا من أجل تطوير عمان، والمضي بها قدما والحفاظ على إنجازاتها، فأباؤنا وأجدادنا تعبوا من أجل أن تصير عمان كما هي اليوم، ويجب علينا أن لا نضيع جهودهم هباءً. لقد كنا صفا واحدا أثناء بطولات الرياضة، باختلاف مشاربنا وقُرانا وقبائلنا وأفكارنا، كنا يدا واحدة في تشجيع منتخباتنا الوطنية، والدفع بهم في المسابقات الرياضية، ولكننا الآن أحوج إلى أن نكون يداً واحدة في السراء والضراء، لحماية بلادنا الحبيبة، وشعبها الوفي من الفتن والحروب وويلاتهما.
لقد ضرب شعب عمان أروع الأمثلة في التسامح والمحبة والألفة والتعاون، حتى صار يُضرب المثل بعمان في كل محفل ومجلس وقناة تتحدث عن التسامح بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وغيرهم، ولذا لا يجب أن تفرقنا أفكارنا ومذاهبنا وأراءنا، ويجب أن يكون الوطن فوق كل هذا وذاك، فحب الوطن من الإيمان، والدفاع عنه جهاد.
إذاً، لنبقَ كما كنا، أخوة في الدين والوطن، يدا واحدة ضد التطرف والإرهاب والغلو، لا يفرقنا شيء، حتى تأمن عمان ويأمن الشعب العماني من ريح التعصب والتطرف النتنة، ويأمن هذا الشعب الطيب من الفتنة، فكما يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “والفتنة أشد من القتل” وقال تعالى في موضع آخر: “والفتنة أكبر من القتل”.

2015/03/28

23 مارس.. طعم آخر



    23 مارس.. طعم آخر


    "السلطان قابوس يعود إلى مسقط بعد رحلة علاجية في جمهورية ألمانيا الاتحادية". هكذا عنونت معظم الصحف المحلية والعالمية صفحاتها الرئيسية، واحتفى واحتفل الجميع بعودة السلطان قابوس - حفظه الله - إلى أرض عُمان الطيبة. لم يكن أبناء عُمان الأوفياء هم الوحيدون الذين احتفلوا بعودة قائد مسيرة التنمية إلى أرض الوطن، بل كان الشعب العربي كله يحتفل معهم. فمن جدة والرياض في المملكة العربية السعودية، إلى أبوظبي ودبي في الإمارات العربية المتحدة، إلى أطفال غزة في فلسطين المحتلة، رفع الإخوة في الوطن العربي أعلام السلطنة وصور جلالة السلطان قابوس - أبقاه الله - عالية خفاقة. لا تسأل عن حال أبناء عمان الأوفياء حين علموا بقدوم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - إلى أرض الوطن، فهم قد انتظروا ثمانية أشهر حتى يعود، وهذه المدة الطويلة قد تُنسي المرء أعز ما يملك، لكن الشعب العماني الوفي لم ولن ينسى من أعاد النور إلى عمان وأخرجها من الظلام.
    لقد كان يوم 23 مارس يومًا مميزًا بحق، فكما رددنا نشيد الولاء للسلطان والوطن في 23 يوليو "أبشري قابوس جاء" رددناه معًا بصوت واحد في 23 مارس، ومن لم يكن موجوداً قبل 45 عاماً، هاهو اليوم يشاهد ويتابع ما جرى في ذلك الوقت، وكأن الزمن يكرر نفسه، ولكن السلطان واحد والشعب واحد.
    لقد بدأت مسيرة النهضة المباركة منذ عام 1970م، وهي تسير إلى يومنا هذا، ولا يجب أن تتوقف أبدًا، وعلينا ألا نسمح للأيدي العابثة والمخربة بأن تعيش بين ظهرانينا، وما يحصل في دول الجوار خير شاهد على ما أقول، وقد قالها حكيم العرب - حفظه الله - سابقًا في العيد الوطني الـ24 المجيد: "إنّ التطرف مهما كانت مسمياته، والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته، نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العُمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبًا، ولا تقبل أبدا أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق".
    الصغار والكبار، الرجال والنساء، الكل استقبل قائد البلاد المفدى - أيده الله -، والجميع شارك ولو بكلمة بسيطة في تحية القائد المفدى، ورفع أبناء عمان أكف الدعاء إلى الله - عزّ وجلّ - بأن يحفظ قائد هذه البلاد ويبقيه لعمان وشعب عمان.
    وكما كنّا نرددها صغارًا في المدرسة، سوف نرددها الآن وفي جميع الأيام: "وليدم مؤيدًا .. عاهلاً ممجدًا .. بالنفوس يفتدى".

    نشرت في جريدة الرؤية

    2015/03/23

    من أصداء معرض الكتاب

    من أصداء معرض الكتاب


    قبل مدة قليلة إنتهت أهم تظاهرة ثقافية في السلطنة، ألا وهي معرض مسقط الدولي للكتاب بدورته الـ20. هذا المعرض الذي يُعد عرسا ثقافية ضخما – إن صح التعبير – له من الأثر في نفوس القراء والكتاب الكثير، فالكل ينتظر هذا العرس الثقافي، والكل يستعد له قارئا كان أم كاتبا، أو حتى زائرا مطلعا. معرض هذا العام تميز بعدة جوانب، وكانت هناك بعض السلبيات التي سوف نستعرض بعضا منها في هذا المقال. ولكن قبل أن نبدأ، يجب أن نوجه من هذا المنبر الشكر والتقدير لكل من ساهم في إنجاح فعاليات هذا المعرض، وإظهاره بهذه الصورة المشرفة. ونتمنى أن تستمر هذه الجهود الطيبة في الأعوام المقبلة، ليخرج لنا المعرض بحلة أبهى وصورة أجمل.

    من الأمور التي استحسنها الزوار هذا العام، هي الفعاليات الثقافية المتنوعة التي أقيمت على هامش المعرض، والتي لاقت ترحيبا من الطبقة المثقفة في السلطنة، بل ولاقت استحسانا واسعا من القراء أيضا. هذه الفعاليات من قبيل الندوات والحوارات التي أقيمت، تعطي انطباعا وتأثيرا إيجابيا لدى المتلقي، الذي يهمه أن يتعرف على مجريات الساحة الثقافية في السلطنة ومنطقة الخليج العربي. وقد استمتعنا واستفدنا في الوقت نفسه من تلكم المحاضرات والندوات الشيقة. وإنه لمن دواعي السرور أن نشاهد مثل هذه الفعاليات تقام في أيام المعرض، بل ونتمنى أن تُقام في أوقات أخرى من السنة، وأن لا تكون حكرا على المعرض فحسب.

    تنوع دور النشر الحاضرة وزيادة عددها عن الدورة الماضية يعطي إنطباعا إيجابيا عن المعرض، ويوحي بأن دور النشر في العالم تسعى إلى الحضور والتسابق في إبراز أحدث إصداراتها للطبقة القارئة والمثقفة في السلطنة. ولكن هنالك نقطة يجب ملاحظتها، وهي أن توقيت معرض مسقط الدولي للكتاب يتزامن مع معرض آخر في دولة شقيقة، وهذا الأمر يؤدي إلى أن العديد من دور النشر تحزم أمتعتها مبكرا لتذهب إلى هذا المعرض ربما لزيادة الإقبال على المعرض في تلكم الدولة، وهذا ما شاهدناه ولمحناه في أخر يومين من أيام المعرض، حيث ذكر لنا بعض البائعين في معرض مسقط، بأنهم استعدوا وأرسلوا ما تبقى من الكتب إلى معرض الدولة الشقيقة، فلم نجد لها أثرا عندنا. فيا حبذا لو تمت ملاحظة هذه النقطة من قبل القائمين على المعرض.

    وفي هذا الصدد رأينا دور النشر تحزم أمتعتها وتخلي معارضها في منتصف اليوم الأخير، وإذا ما سألناهم عن الكتب، قالوا بانهم قد أنهوا أعمالهم في مسقط وسوف يعودون أدراجهم، رغم وجود إعلانات دورية في اليوم الأخير عن السماح لدور النشر بحزم أمتعتها بعد انتهاء المعرض وإلى يومين أو ثلاثة ما بعد المعرض، مما أدى إلى قلة المعروضات في اليوم الأخير، الأمر الذي يتكرر كل عام تقريبا.

    هذا العرس الثقافي المميز يستقطب طبقة كبيرة من الزوار، وفي كل عام نلاحظ ازدياد عدد الحضور إلى هذا المعرض ولكن تبقى المشكلة نفسها قائمة في كل عام، ألا وهي شح المواقف وتعطل الزوار لفترة طويلة من أجل البحث عن موقف، ولكن نلاحظ هذه السنة بأن المواقف قد نقصت، ربما لتغيير أماكن القاعات.
    في هذا العام أيضا، رأينا زيادة مؤلفات الكُتاب العمانيين وهذا الأمر في حد ذاته إيجابي ومفيد للساحة الثقافية المحلية، ورأينا أيضا اهتماما بالمؤلفين الشباب، كما شاهدنا إصدارات صوتية وهي ظاهرة جديدة لم تكن في السابق، وهو تقدم إيجابي وتطور ملحوظ للساحة الثقافية العمانية.

    ختاما، فإن هذا العرس الثقافي، أهم تظاهرة ثقافية في السلطنة، ولذلك لابد من بذل الجهود الممكنة لتطويره وتنويع فعالياته أكثر من ذي قبل، بل ودعوة دور نشر أخرى وبالخصوص الأجنبية منها. ومن هذا الوقت إلى العام القادم، فإننا سنكون بانتظار الدورة الـ21 من المعرض، لتظهر لنا بصورة أفضل، وفعاليات أكثر، وتخطيط أجمل.


    د. رضا بن عيسى اللواتي
    مسقط – سلطنة عمان

    2015/01/25

    البحث العلمي في عُمان .. بين الواقع والمأمول

    البحث العلمي في عُمان ..

    بين الواقع والمأمول

    لا يخفى على أحد منا دور البحث العلمي في تطور المجتمعات البشرية ورُقيها، حيث أنه من خلاله يتم إيجاد وسائل وحلول للمشاكل التي تعاني منها هذه المجتمعات، بالإضافة إلى أنه يساعد في وضع الاستراتيجيات والخطط الملائمة لقيادة هذه المجتمعات إلى الإزدهار والتنمية. ونظرا لأهميته الكبرى فإن الدول المتقدمة تعطي هذا المجال اهتماما كبيرا من حيث تسليط الضوء عليه وتدريب الطلاب الجامعيين والأكاديميين ليكونوا باحثين وليس مجرد طلاب أو معلمين، بالإضافة إلى تخصيص الدعم المادي الكبير لهذا القطاع.
    أما على صعيد مجتمعاتنا العربية فإنه لا يختلف اثنان على وجود فجوة كبيرة وهوة عميقة في منظومات البحث العلمي في عالمنا العربي فيما لو قارناه بالعالم المتقدم شرقا اتجهنا أو غربا، ولو تعمقنا قليلا في الإحصائيات التي أًجريت في مختلف الدول العربية حول البحث العلمي فيها، لاتضح لنا حجم الهوة العميقة التي بيننا وبين دول العالم الأول في هذا المجال من جهة، وبُعد الجانب النظري من الأبحاث التي تجري في دولنا العربية عن الجانب التطبيقي من جهة أخرى، مما أوجد فجوة إضافية ساهمت في تدني المستوى العلمي والبحثي في الوطن العربي.
    وقبل الدخول في صلب الموضوع، والحديث عن واقع البحث العلمي في السلطنة، من المفيد أن نتعرف إلى معنى البحث العلمي، وفي هذا المضمار يقول بعض الباحثين إن البحث العلمي هو "محاولة لاكتشاف المعرفة، والتنقيب عنها، وتطويرها وفحصها، وتحقيقها بتقص دقيق ونقد عميق ثم عرضهاً عرضاً مكتملاً بذكاء وإدراك لتسير في ركب الحضارة العالمية وتسهم فيه إسهاماً حياً شاملاً". ويقول آخرون بأن البحث العلمي هو عبارة عن  "أسلوب للتفكير المنظم، ذلك الأسلوب الذي يعتمد على الملاحظة العلمية والحقائق والأرقام في دراسة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية دراسة موضوعية بعيدة عن المؤثرات والميول الشخصية أو الاتجاهات التي تمليها المصالح الذاتية".
    وما كان لهذه الحقيقة أن تغيب عن ذهن صاحب الجلالة السلطان قابوس – حفظه الله ورعاه – وهي يخطط لمستقبل هذا البلد العزيز، فقد كان سبّاقا إلى الدعوة إلى ذلك فقال في إحدى كلماته: "عندما نصل بالتعليم إلى الدرجات العليا فنحن مطالبون بأن نضيف إلى تلك المعارف معارف جديدة، أن نبحث، نستنبط، أن نفكر، أن نتدبر، وعلينا أيضًا أن نصحح معارف من سبقنا لأنه في كثير منها نظريات والنظريات تكون متجددة، فلا نقول أن ما وصلوا إليه في الماضي هي المعرفة، لا، المعرفة ليست مطلقة، المعرفة متجددة".
    أهمية البحث العلمي:
    وبالعودة إلى أهمية البحث العلمي، فإننا نجد أن البحث العلمي يقدم حلولا لمشكلات كثيرة تعاني منها المجتمعات البشرية، سواء أكانت هذه المشكلات معضلات علمية لم يتم فك رموزها، أو مشاكل وصعوبات اجتماعية واقتصادية، بل وحتى العلاقات السياسية بين الدول يتم تطويرها أو الوقوف عليها أوتقديم النصائح والتوصيات في شأنها عن طريق البحث العلمي.
    والحقيقة إن أهمية البحث العلمي تزداد بشدة إذا تناول واقع المجتمع الذي يتم دراسته، حين يضع الباحث مشاكل مجتمعه وهمومه في أولويات بحثه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كلنا نعلم أن السلطنة تعاني من تصاعد نسبة الحوادث المرورية بشكل كبير للغاية، كما تواجه السلطنة مشكلة أخرى تتمثل في معاناة عدد لا بأس به من أفراد المجتمع من أمراض الدم الوراثية، فلو ركز الباحثون على إيجاد حلول لهذه المشاكل فإن استفادة المجتمع العماني من البحث العلمي ستكون كبيرة، وهذا الأمر الذي سوف ينعكس ايجاباً على مستقبل الدراسات التي سوف تجرى في هذا المجال، لأنها تلامس واقعا حياً ومشكلة يعاني منها المجتمع العماني. كذلك فإن إجراء ابحاث ودراسات حول الآثار التاريخية التي تنتشر في ربوع السلطنة، سيرفد المكتبة العلمية العمانية بكمٍ هائل من الدراسات والأبحاث، ستفيد الباحثين حول تاريخ المنطقة لا سيما تاريخ السلطنة الذي يمتد عمره إلى الآف السنين.
    من هنا يصبح من مسؤولية الباحث أن يهتم أكثر وأكثر بواقع مجتمعه وينغمس أكثر في قضاياه وهمومه ومشاكله، حتى يقدم حلولا دقيقة وجذرية للمشاكل التي يعاني منها هذا المجتمع. وما البحث الذي أجراه أحد الباحثين العمانيين حول دوباس النخيل والذي يتسبب في تلف أشجار النخيل إلا مثالا على مصداقية ما نقول، حيث تمكن هذا الباحث من الوصول إلى بعض الحلول لهذا الوباء، وبالتالي المساهمة في القضاء عليها، الأمر الذي ساهم في زيادة انتاجية أشجار النخيل.
    كما أن على الباحثين استغلال الظواهر الإيجابية في المجتمع العماني، والعلاقات الاجتماعية، وإجراء الدراسات والأبحاث والإحصائيات في هذا المجال، لتطوير هذه الظواهر وتحسين العلاقات الاجتماعية ومعرفة أسباب قوة العلاقات الاجتماعية في السلطنة رغم اختلاف العادات والتقاليد لبعض منها، واختلاف المناطق واللهجات أحيانا.
    واقع البحث العلمي في العالم العربي وسلطنة عمان:
    لو أجرينا مقارنة بين ما تنفقه الدول العربية مجتمعة في مجال البحث العلمي وما تنفقه الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال لوحدها، لوجدنا أن ما تنفقه الدول العربية لا يساوي 1 إلى 120 من حجم الإنفاق في الولايات المتحدة، وأن ما تخصصه الجامعات العربية للبحث العلمي لا يتجاوز الـ1%، بينما نجد أن ما تنفقه الجامعات الامريكية للبحث العلمي يصل إلى 40% من مجموع انفاقها (1). أما نسبة إنفاق السلطنة على البحث العلمي فإنه يبلغ أقل من 1% من الناتج الإجمالي المحلي وذلك حسبما ورد في إحصاءات اليونسكو، وهي تتقاطع مع التي أشارت إليها إحصائيات وزارة الاقتصاد الوطني لعام 2000م (2).
    وقد أجريت دراسة في عام 2002 تتحدث عن اتجاهات البحث التربوي في السلطنة وذلك من خلال تحليل رسائل الماجستير والدكتوراه التي أعدها باحثون عمانيون، وقد وجدت هذه الدراسة أن عدد الأبحاث طوال الـ 40 سنة الماضية من العام 1970م إلى العام 2002م لم يتجاوز الـ260 بحثا فقط، تناولت مجالات التعليم في السلطنة، وإن كانت هذه الدراسة قد لاحظت زيادة في أعداد الأبحاث مع مرور السنوات (1). وإذا ما قمنا بتحليل دقيق لهذه الإحصائية سنجد أن هذا العدد ضيئل جدا حتى لو قارناه بدول الجوار، على الرغم من الجهود التي تبذلها جامعة السلطان قابوس في هذا المجال منذ افتتاحها عام 1986م.
    والملاحظ أيضا أن البحث العلمي يعتمد بشكل أساسي في السلطنة بشكل خاص وفي الوطن العربي بشكل عام على الدعم الحكومي، في حين لا يتجاوز التمويل الحكومي للبحث العلمي في كندا 40%، و30% في الولايات المتحدة الأمريكية وأقل من 20% في اليابان، وهذا الأمر يشكل تحدٍ كبير لهذا القطاع الناشئ في السلطنة.
    من جهة أخرى ذكر تقرير منظمة اليونسكو في عام 2003م أن سلطنة عمان واليمن ودولة الإمارات العربية المتحدة تشارك مجتمعة بما نسبته 0.008% من المقالات العلمية المنشورة في المجلات البحثية المتخصصة، أما مملكة البحرين بمفردها فإنها تشارك بما نسبته 0.01% من المقالات العلمية المنشورة في المجلات البحثية المتخصصة، وتشارك المملكة العربية السعودية بنسبة 0.1% من هذه المقالات، أي أننا لم نصل حتى إلى مستوى دول الجوار في النشر العلمي.
    ولاشك أن جامعة السلطان قابوس التي تضم تسعة مراكز بحثية وهي: مركز أبحاث النفط، مركز الدراسات العمانية، مركز رصد الزلازل، مركز الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية، مركز أبحاث الاتصالات والمعلومات، مركز الدراسات والبحوث البيئية، مركز أبحاث المياه، مركز التميز في التقنية الحيوية والبحرية، مركز البحوث الإنسانية، تبذل من خلال هذه المراكز جهودا لا بأس بها في حركة البحث العلمي في البلاد. تتمثل مصادر تمويل البحث العلمي في جامعة السلطان قابوس في المنح الداخية للجامعة، والتي يتم استقطاعها من الموازنة السنوية للجامعة، وقد بلغ عدد المنح الداخلية لقرابة 1072 بحثا علميا حتى عام 2013م (3). واستحوذت كلية الطب والعلوم الصحية على النصيب الأكبر من التمويل بما يقارب 24% من المشاريع العلمية تلتها كلية العلوم وكلية الهندسة بنسبة 20% لكل منهما.
    مجلس البحث العلمي في السلطنة:
    من هنا كان لابد من العمل بشكل منظم وسريع من أجل إيجاد حلول لهذه المشكلة التي باتت تؤرق مضاجع المسؤولين والمهتمين بالبحث العلمي، فأنشئت مراكز البحث العلمي في شتى بقاع العالم العربي، لتكون منارة جامعة للبحث العلمي في كل الدول العربية، وهذا ما حصل أيضا في سلطنة عمان، فقد تأسس مجلس البحث العلمي عام 2005م بمرسوم سلطاني ومجلس البحث العلمي "هي الجهة الحكومية التي تُعنى بتعزيز ثقافة البحث العلمي وتنمية الابتكار في السلطنة، كما أنها هي الجهة المخولة التي تضع الاستراتيجيات التي تشجع الابداع والبحث العلمي، كما تعمل على تعزيز المواهب البحثية عن طريق دعم وتنظيم كل ما له علاقة بجهود البحث العلمي والابتكار سعيا لما يخدم المجتمع والاقتصاد وازدهار الوطن" (4).
    تكمن أهمية مراكز البحث العلمي في دعم المشاريع وتعزيز ثقافة البحث العلمي والابتكار، والمساهمة في الخطط التنموية من خلال تنفيذ المشاريع البحثية وتمويلها ودعمها، كما أنها تساهم بشكل كبير وفعال في إيجاد حلقة الوصل بين الباحثين في مختلف الميادين. كما أن هذه المراكز تهتم بالارتقاء بسبل البحث العلمي ومهارات الباحثين وإثراء معارفهم وامكانياتهم، وكله ينصب في التنمية وتطوير المجتمع.
    أما عن أهداف مجلس البحث العلمي في عمان فترتكز على أربعة محاور أساسية وهي: بناء السمعة البحثیة، تحقیق التمیز البحثي، تأسیس الروابط البحثیة ونقل المعرفة، تأسیس البیئة البحثیة المحفزة. ويعمل المجلس على تحقيق أهدافه هذه من خلال نشر المؤلفات العلمية، ودعم الابتكارات الفردية والخطط البحثية في السلطنة. وفي حوار مع صاحب السمو السيد شهاب بن طارق آل سعيد رئيس مجلس البحث العلمي انفردت به مجلة "تواصل علمي" قال: "وقد قدم مجلس البحث العلمي منذ إنشائه حتى اليوم العديد من الإسهامات في المجتمع العماني وربما أوجزها في إعداد الخطة الوطنية للبحث العلمي وفي تحديد أولويات البحث العلمي، وتحديد المجالات الاستراتيجية للنظر في إيجاد حلول مناسبة لها عن طريق البحث العلمي، وقد أشرت سابقاً الى برنامج السلامة على الطريق لمعالجة مشكلة حوادث الطرق بالأساليب المثلى ومن المشاريع الاستراتيجية الأخرى على سبيل المثال العمل على معالجة دوباس النخيل المعروف لدينا بمرض (المتق) وكذلك الإعلان عن برنامج بحثي بعنوان المرصد الاجتماعي لرصد التغيرات الاجتماعية في المجتمع العماني".
    التحديات التي تواجه البحث العلمي في السلطنة:
    من أهم التحديات التي تواجه مجتمع البحث العلمي في السلطنة هو غياب دعم القطاع الخاص لهذه البحوث العلمية كما أوضحت ذلك إحصائية سبق ذكرها، كما أن القطاع الخاص لا يستثمر نتائج و مخرجات هذه البحوث العلمية. أما التحدي الثاني الذي يواجه الباحثين فهو عدم توافر الوقت اللازم للبحث العلمي، فالباحث في الجامعة أو الكليات لا يتم تفريغه لهذه المهمة، بل يتم استغلاله في مهام إدارية أخرى، كما أن عدم الاهتمام بالباحث وتوفير سبل العيش الكريم له ولأُسرته يحول دون الاستمثار الأمثل لبحوثه ونتائجها.
    انعدام التطبيق العملي لنتائج البحث العلمي واستثمارها على أرض الواقع بسبب الافتقار إلى التنسيق بين الجهات البحثية ومؤسسات المجتمع المدني سواء كانت حكومية أو خاصة يساهم وبشكل كبير في عدم خروج نتائج هذه الأبحاث إلى النور، وبالتالي عدم وجود الحافز لدى الباحثين في المساهمة بنتائج أبحاثهم خارج مجتمعاتهم البحثية والاكتفاء بالنشر العلمي يعد تحديا ثالثا، وهنا يأتي دور مجلس البحث العلمي في متابعة تطبيق هذه الأبحاث على أرض الواقع للاستفادة من نتائجها مستقبلا.
    ومن أهم التحديات التي تواجه مجتمع البحث العلمي في عمان هو عدم وجود الأرضية الخصبة لتطبيق نتائج الأبحاث على أرض الواقع، بسبب عدم انتشار ثقافة البحث العلمي في المجتمع العماني فيما لو تمت مقارنته بالدول المتقدمة. ويبدو واضحا وجليا عدم اهتمام وسائل الإعلام بأنواعها بالبحث العلمي ونتائجه إلا نادرا، وهذا الأمر ينعكس بصورة سلبية على المجتمع العماني بحيث تنحسر لديه ثقافة البحث العلمي ونتيجة لذلك تنعدم الأرضية الخصبة لتطبيق نتائج الأبحاث.
    توصيات ومقترحات:
    قطعت التنمية في السلطنة شوطا كبيرا خلال العقود الأربعة المنصرمة، وشهدنا تطورا واضحا في كثير من المجالات، ولكن مجال البحث العلمي لم يواكب هذا التطور والتحسن، ولا زال المهتمون بالبحث العلمي يأملون في حدوث تطور وتحسن هذا المجال. ولا يسعني في هذه العجالة إلا أن أطرح بعضا من التوصيات والمقترحات لعل بعضها يلقى اهتمام المسؤولين فتكون كغرس بذرة تنمو فيما بعد واقعا يفيد المجتمع العماني برمته. وهي دعوة القطاع الخاص للاهتمام بالبحث العلمي، وأن يساهم ماديا ومعنويا في تنمية قطاع البحث العلمي في السلطنة، وفيما بعد أن يستثمر نتائج المشاريع والأبحاث ويطبقها، لأن للقطاع الخاص دورا مهما في التنمية وهذا ما شهدناه ورأيناه في مختلف المجالات التي ساهم فيها القطاع الخاص.
    من المهم جدا أن يلعب الإعلام المحلي دوره الكامل في إبراز نشاط البحث العلمي في السلطنة، خصوصا بعد إنشاء مجلس البحث العلمي كأول مجلس يهتم بهذا المجال في السلطنة، وخصوصا إذا ما عرفنا بأن تنمية وتطوير البحث العلمي في السلطنة يعد من ضمن أهداف التنمية في الخطة الخمسية الثامنة، وذلك لأن قطاع الإعلام اليوم يلعب دورا مهما وحيويا جدا في التطور والنهوض بالمجتمعات، كما أن على الإعلام أن لا يركز فقط على الندوات والمؤتمرات العلمية والبحثية، بل عليه أن يسلط الضوء على أبرز التوصيات والنتائج التي توصل إليها المؤتمر، وأن يكون وسيلة لتطبيق هذه النتائج ومواكبة التطورات التي يرافقها حتى تطبيقها.
    أما الباحث العماني فإنه مطالب فإنه عليه أن يحدد الأهداف المرجوة من البحث الذي يزمع على إجراءه ويحدد الفائدة المرجوة من هذا البحث لتطوير المجتمع العماني، وأن يضع نصب عينيه تطبيق نتائج دراسته في المستقبل. وأخيرا، على المسؤولين الاهتمام بالطلاب الجامعيين وتهيئتهم ليكونوا باحثين ناجحين، مهتمين بقضايا المجتمع العماني في شتى مجالات الحياة، وأن يكون البحث العلمي أحد أبرز متطلبات الدراسة في الكليات العلمية والإنسانية.
    ختاما، فإن قضية البحث العلمي في السلطنة مهمة جدا، والاستثمار في هذا النشاط يعني التطور والرقي والتقدم للمجتمع العماني، وواجب علينا جميعا أن نهتم بمثل هذه القضية، وأن نساهم في تطوير البحث العلمي في المجتمع العماني كل حسب امكانياته، يدا بيد مع مجلس البحث العلمي و عمادة البحث العلمي في جامعة السلطان قابوس وبقية مراكز البحث العلمي في الكليات الحكومية والخاصة وغيرها.

    الهامش:
    (1)       واقع البحث العلمي في العالم العربي ومعوقاته، د.علي البومحمد، أ.د. سميرة البدري.
    (2)       مراكز البحث العلمي ودورها في تفعيل التواصل العلمي: سلطنة عمان أنموذجًا، خالصة عبدالله محمد الهنائية.
    (3)       جريدة البيان الإماراتية، البحث العلمي.. فجوة الإمكانيات وغياب الاستراتيجية وراء تأخر العرب (2)
    (4)       موقع جامعة السلطان قابوس، صفحة مجلس البحث العلمي.

    نشرت في مجلة شرق غرب الثقافية العمانية في عددها الرابع الصادر لشهر يناير/2015