2016/02/02

حتى لا يودع الفائض في جيب فئة من المجتمع ويغطى العجز من جيب فئة أخرى! هل للإعلام دور؟

حتى لا يودع الفائض في جيب فئة من المجتمع ويغطى العجز من جيب فئة أخرى! هل للإعلام دور؟
أسعار النفط تتهاوى، تتدحرج للبعض ككرة النار تأكل في طريقها الأخضر واليابس وللبعض الآخرككرة الثلج تحول أراضيهم القاحلة إلى بساتين. هكذا تبدو الصورة من حولنا، ففي حين تسجل بعض الدول عجوزات ضخمة في موازناتها جراء إنخفاض أسعار النفط، تحتفل أخرى بتسجيل فيوضات مالية أهدتها لهم نتائج حرب البسوس، وللأسف بين مكونات يفترض أنها تنتمي الى دين واحد، فتشتري هذه الدول النفط بأقل من سعر التكلفة. هكذا أردناها حربا شعواء بين العرب والفرس وبين النواصب والروافض بين مسلمي المسلمين وكفار المسلمين، فاكتوينا بنار هذه الحرب قبل أن يكتوي بها من قصدناهم.
أسواق المال الخليجية يكاد لا يُرى على شاشاتها سوى اللون الأحمر، والمواطنون فيها يضعون أيديهم على جيوبهم الخاوية أصلا خوفا من تسلل قرارات حكوماتهم إليها كعادتها في مثل هذه الحالات. وبالفعل لم يطل انتظارهم فهاهي حالة الطورئ تُعلن، والدعوة إلى ربط الحجارة على البطون تشتد، وتتحسس الجهات المعنية أزرار حواسيبها الآلية لتستنسخ قرارات اتخذتها في حالات مماثلة سابقة وتلصقها على صفحات جديدة (قص ولصق) وتعممها على المواطن الذي ليس عليه سوى التنفيذ. وللأسف فإن الدول التي تعلمنا منذ نعومة أظفارنا أن نحفظ قرشنا الأبيض ليومنا الأسود لا تعمل بهذه الحكمة السديدة. وما القرارات التقشفية الأخيرة التي صدرت من الجهات المنوط بها تحقيق التنمية المستدامة والرفاهية للمواطن في هذه الدول سوى حلقة في هذه السلسلة من المسرحيات الموسمية وعلى حساب هذا المواطن.
فوزارة المالية كعادتها قصت تلك القرارات من الملف المحفوظ في ذاكرة حواسيبها الآلية والعائدة إلى أول حالة ركود شهدتها السلطنة خلال هذا العهد الميمون وألصقتها في منشور مالي جديد وعممتها على الجهات الحكومية وطالبتها بتطبيقها بغرض تخفيض الإنفاق العام وبالتالي المساهمة في تخفيض العجز الكبير المتوقع تحقيقه هذا العام أو ربما الأعوام القادمة جراء الإنخفاض في العوائد النفطية.
وإذا إستعرضنا بعض الإجراءات التي شملها المنشور، فإننا لا نفشي سرا إذا قلنا أن السيارات الحكومية التي دعا المنشور إلى ضبط إستخدامها مستباحة وبلا حدود جهارا نهارا، والمباني المؤجرة للجهات الحكومية التي طالب المنشور التفاوض بشأن تخفيض إيجاراتها معروف من المستفيد منها فإيجاراتها خيالية وعقودها صالحة لمدى الحياة، بل أن كثيرا منها لا حاجة إليها وإنما أريد لها أن تكون خدمة إنسانية لبعض المحتاجين. أما المهمات الرسمية والتدريبات الخارجية التي دعا المنشور إلى ترشيدها فقد أضحت مصدرا لثلاثة أرباع أرباح شركات الطيران والفنادق العالمية نظرا لكثرتها وكثرة الأعضاء المشاركين فيها وطول فتراتها، والأمر من ذلك عدم وجود ضرورة للكثير منها، فهي في أغلب الأحيان إجازات مدفوعة الأجر.
أما ظاهرة عقد واستضافة المؤتمرات والندوات والإجتماعات التي دعت المالية إلى الحد منها فحدث عنها ولا حرج. ويبدو أننا في سباق منقطع النظيرلتسجيل إسم السلطنة في موسوعة “جينيس” في هذا النشاط. إذ لا يخلو يوم إلا ويشهد إفتتاح معرض أو ندوة أو مؤتمر أو ورشة عمل أو مهرجان أو سباق أو غيره، والحساب يوم القيامة.
الله سبحانه وتعالى وحده العالم بحجم المبالغ التي تصرف على شراء شهادات الإطراء وتقدير الإنجازات وجوائز الإبداع سواء على صعيد القطاع العام أو الخاص، فحكومتنا الألكترونية أحسن الحكومات، وخدمات بنوكنا أحسن الخدمات وإستثماراتنا أفضل الإستثمارات، وتخطيط مدننا أجمل تخطيط وخططنا التنموية تضع اللبنات الأخيرة لدولتنا الفاضلة. فإذا كانت مثل هذه الإشادات وشهادات الأحسن والأكثر والأفضل والأعلى والأجود وغيرها نستحقها بجدارة ما كنا لننهار أمام أبسط إختبار.
وللأسف فإن نظرة سريعة على الإجراءات التي عممتها وزارة المالية على الوحدات الحكومية تدين إدانة صريحة جميع المسؤولين والمؤتمنين على مقدرات البلاد وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هؤلاء المسؤولون، عن قصد أو دون قصد، لا يريدون أن يتعلموا من التجارب الناجحة أو الفاشلة، وأن خططنا التنموية لم تصل إلى ذلك المستوى الذي تستحق عليه كل تلك الإشادات وذلك المديح.
فالواضح أن النفقات التي أوصت وزارة المالية بخفضها أو وقفها تبدو أولا أنها تصرف في أمور لا أهمية لها أو لمستفيدين لا يستحقونها. وثانيا تبعاتها المالية عالية ولها أثر ملموس على موازنة الدولة وإلا لما لجأت الوزارة للدعوة إلى خفضها أو وقفها. فالملاحظ مما سبق أن المالية على علم بهذه التجاوزات ولا شك أن رؤساء وحدات الجهاز الإداري الذين يعتمدون صرفها أيضا على علم بها، ولا بد أن تكون أجهزة الرقابة المختلفة على علم بذلك وإلا لن تكون أجهزة رقابة بل مشاهدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، أنه إذا كانت تلك النفقات تصرف دون وجه حق ويمكن الحد منها أو حتى وقفها، ليس هذا فحسب بل أن لاستمراية التمادي فيها أثر سلبي ملموس على الموازنة العامة للدولة حسب ما يتضح من صيغة منشور الوزارة، فلماذا تسمح وزارة المالية باستمرار هذا النزيف المالي في جسد الهيكل المالي للدولة ولا تشعر به إلا عندما تصاب مالية الدولة بفقر الدم وتحتاج إلى نقل دم إليها. وللأسف فإن هذه الإجراءات الإدارية والمالية لا تستطيع تعويض كمية الدم المفقود جراء هذا النزيف المالي المستمر لسنوات.
من هنا يبدأ البحث عن كبش فداء لحل هذه المعضلة، ومن غير المواطن المسكين يصلح لهذا الدور. هذا المواطن المغلوب على أمره الذي هو بنفسه بحاجة إلى نقل دم إلى جيبه النازف جراء نقص في الموارد وضغط الأعباء المادية للحياة وارتفاع الأسعارالناتج عن تلاطم أمواج الإحتكار لأغلب السلع. ليس هذا فحسب بل أن جيبه معرض لمزيد من النزيف في ضوء مزيد من الإجراءات التأديبية التي نفذت والتي يخطط لتنفيذها ضده.
فها هي أسعار الوقود ترتفع بنسبة 30% دفعة واحدة وضريبة الدخل ترتفع بنسبة 25%. والحديث في المجالس الخاصة ووسائل التواصل الإجتماعي حول إجراءات أخرى قادمة لا يتوقف. فالقائمة التي يتم تداولها تشمل تراخيص جلب العمالة الوافدة والإيجارات والكهرباء والماء والصرف الصحي. والخوف كل الخوف أن تشمل هذه الإجراءات العلاج والتعليم. ويبدو أن الطبخة هذه المرة مبهرة تماما، والمصيبة أن مصدر جميع هذه العوائد كما نرى في نهاية المطاف هو جيب المواطن البسيط. فأدبيات الرأسمالية تحرم على من ينضوي تحت لوائها إرهاق جيبه وخزينته بالضرائب والرسوم وبالتالي عادة ما يتم تعويضها من خلال التلاعب في السعر أو الكمية أو الجودة. ومفرط في التفاؤل كل من يدعي أن حماية المستهلك، على الرغم مما تقوم به من جهد محمود تشكر عليه، باستطاعتها لجم جميع ألاعيب وحيل التجارة. فكل ما يوفره المواطن خلال عام نتيجة سيطرة حماية المستهلك مشكورة على الأسعار وضمان جودة السلع والخدمات، يصرفه رغما عنه عند دفع فاتورة إصلاح سيارته التي لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى حقيقة ما يتم إصلاحه فيها إن لم يكن إفساده، أو عندما يجبر على سداد فاتورة الكهرباء والماء بموجب قراءات الإستهلاك من وحي خيال مزودي هاتين الخدمتين.
وهكذا في كل مرة، نجد عوام الناس هم وللأسف الشديد أول من يكتوون بنار الأزمات وفي أغلب الأحيان يصبحون مكبا لاستيعاب كافة الآثار السلبية لتلك الأزمات على الرغم من أنه لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فالمواطن في أغلب دول منطقتنا لا يشارك في رسم السياسات ولا صوت له في إتخاذ القرارات. ولا نصيب له في كعكة حفل الزواج وإنما يطلب منه لبس السواد في ما إذا إنتهى الحمل بمولود نافق يستوجب الحداد.
فكم من سياسات عقيمة تم تبنيها وكم من قرارات عوجاء تم اتخاذها سواء عن قصد أو غير قصد ولم يعلم بها المواطن إلا بعد ما فاحت رائحة العفن من مخلفات هذه المشاريع والقرارات الفاسدة في ظل سياسة التعتيم والإعلام المجامل الذي لم يلعب طوال العقود الماضية إلا دور التطبيل ولم يكن يتحدث سوى عن الجزء المنير من المسيرة الوطنية والذي لا شك أنه الأكبر. أما الجزء القاتم فقد أراده البعض لغاية في نفس يعقوب، أن يكون خطا أحمر لم يكن مسموحا لأحد التعرض له، وبالتالي أحيط بصمت تام من قبل وسائل الإعلام المختلفة وحملة أقلامها ومحرري أعمدتها الذين آثروا أن يغنوا ويطبلوا للجزء المنير من القمر، أما الجزء المظلم فلم تكن له من بواكي. فكانت مواضيع الأخبار في وسائل إعلامنا لعدة عقود لا تبدأ إلا بإحدى هذه الكلمات: غادر وعاد واستقبل وودع وافتتح ورعى.
وفي الحقيقة يتحمل الإعلام العماني بكافة أنواعه جزءا لا يستهان به من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع. لقد عودنا هذا الإعلام طوال السنين الماضية وللأسف أن نقول للصحيح صح وللخطا أيضا صح حتى كدنا نحذف كلمة الخطأ من مفرداتنا لندرة إستخدامنا لها فكانت نتيجتها أن وقعنا في زلات وانزلاقات وإخفاقات لولاها لكنا متقدمين عقودا عما نحن عليه الآن، ولكنا نملك آليات تحمينا في أوقات الشدة من الوقوع في شباك قرارات أحلاها مر.
عقود ونحن نتحدث عن تنويع مصادر الدخل فإذا بنا نكاد نفقد مصدره الرئيسي. سنون طوال ونحن نبحث عبثا في نفق مظلم عن آلية ندعم بها مؤسساتنا الصغيرة والمتوسطة، عشرات الندوات والمؤتمرات نظمت وفي النهاية تركنا أمرها في أيدي حيتان تتولى رعايتها ولن تلبث أن تبتلعها بمجرد أن ترى هذه المؤسسات النور.
ملايين تصرف على المعارض التي تنظم في كافة أرجاء العالم لتسويق السياحة في البلاد، إلا أننا لا نرى حتى الآن سوى بضعة آلاف من السواح المتقاعدين يتوقفون في مسقط أو صلالة في طريقهم إلى الشرق. سكناهم على البواخر التي تأتي بهم وطعامهم سندويتشات الشاورما على مطاعم الشارع البحري في مطرح الذي لم يتم توفير أدنى الخدمات التي يحتاجها السائح كدورات المياه على أقل تقدير. أما مشترياتهم فتقتصر على كمة خياطة بنغالية وعصا ولبان خمسون غرام لا تتجاوز قيمتها جميعا عشرة ريالات عمانية. هذه هي السياحة التي ننظر إليها لتكون ندا لدخل البلاد من النفط ويطبل لها إعلامنا ليل نهار. وبالطبع فإن ترتيب هذه الرحلات تتولاها شركات سياحية معروفة.
بعد كل هذا، هل نحن بحاجة لأن نذكر بما سببته سياسة التطبيل والمجاملات والتعتيم وغياب الشفافية والنفاق الإعلامي من مآسي إقتصادية وسياسية واجتماعية. هل نحن بحاجة لأن نذكركيف أن غازنا تدار به مصانع شعوب أخرى فيما نحن لا نملك سوى أن نشم رائحة هذا الغاز فحسب لأنه بفضل عبقرية إقتصاديينا بيع هذا الغاز ولعقود قادمة في سوق الحراج العالمي بثمن بخس سنتات معدودات لا بل في بعض الأحيان بسنتات أو حتى دولارات سالبة لأننا وبموجب بنود العقود التي أبرمناها مع مستوردي غازنا ملزمون بضمان استمرارية توفير الغاز لهم حتى في حالات الصيانة أو العطل، ملزمون بشرائه من السوق وإن كان بسعرأعلى من سعر البيع المتفق عليه.
أوليس تحت جنح ظلام التعتيم الإعلامي أو الإعلام المحابي قدمت آلاف الأمتار من أراضينا زكاة للمحتاجين من أصحاب رؤوس الأموال المساكين تحت بند “تشجيع الإستثمار”، فسمعنا من تلك الإستثمارات جعجعة ولم نرى طحينا حتى الآن. ليس هذا فحسب فالأراضي التي كان المأمول من منحها مجانا أن تساهم في تنمية النشاط الإستثماري، ساهمت في إنتاج طبقة من إقطاعي الأرض تحكمت في حركة تداول الأراضي وفي أسعارها وفي الإيجارت التي إرتفعت إرتفاعا صاروخيا دون مبرر. علما أن الأراضي التي تم تمليكها مجانا لغرض الإستثمار، لو بيعت من قبل الدولة بنصف سعر السوق للمستحقين الفعليين والجادين في مختلف المراحل التي مررنا بها لكانت كفيلة بتغطية جزء من العجز في الموازنة العامة لسنوات عدة قادمة.
ألم تكن من مسؤولية الإعلام كشف الغطاء عن ظاهرة إزدهرت حتى باتت تبث سمومها وللأسف في أغلب مؤسسات القطاع العام. فنجد مسؤولين كبار يتقاضون مخصصات عالية، ويتم ندبهم للإشراف على وظائف عدة أخرى في نفس المؤسسات ويتقاضون نسبا معينة إضافية من رواتبهم تتجاوز أحيانا نصف الراتب عن كل تكليف، تصرف لهم كبدل إدارة تلك الوظائف. وفي معظم هذه الحالات تنجز جميع هذه المهام المكلف بها في نفس أوقات العمل الرسمية بل وتكون على حساب جودة الأداء في الوظيفة الأساسية. مسرحية مكشوفة لمساعدة البعض على تحسين دخلهم على حساب الآخرين. وإلا أليس من الأولى دمج بعض المديريات والأقسام وبالتالي دمج بعض الوظائف إذا كانت طبيعة عملها متقاربة، أو توفير فرصة لكفاءات أخرى في نفس المؤسسة لتولي هذه المهام إذا كانت طبيعة العمل تستدعي التفرغ وفي هذه الحالة نساهم في توفير فرص عمل جديدة بدلا من تربية قطط سمان في المؤسسة وعلى حساب جودة الإنتاج.
ظل إعلامنا طوال العقود الماضية يضع عصابة سوداء على عينيه حتى لا يشاهد مصالح الوطن والمواطن تنحر على مقصلة تضارب المصالح التي لم ينظر إليها يوما ما كخط أحمر بين المصلحة الشخصية ومصلحة الوطن والمواطن، فكانت القسمة لخيرات الوطن على أساس مبدأ تلاقي المصالح. فتوزعت المناقصات الحكومية بالتناوب والتفاهم على عدد محدود ومعروف من المؤسسات الخاصة في ظل إنعدام المنافسة سعرا وجودة دون مراعاة لمصلحة الوطن. وكان من فضل الشيطان على بعض الأنام في ظل هذه السياسة أن أغناهم بالحرام عن الحلال.
إنشغل إعلامنا بتغطية أخبار مغادرة المسؤولين وعودتهم واستقبالاتهم ورعايتهم لمناسبات لا علاقة لأغلبها بالمصلحة العامة، انشغل بتلك الأخبار وغض طرفه عن أصحاب رؤوس (المناصب) الذين وجدوا في بعض الثغرات في القوانين هنا وهناك بقرة حلوبا درت عليهم عمولات ورشاوى ومكافآت وبدل مهمات – بمناسبة أو غير مناسبة وبوفود تضم سلسلة أسماء لها أول وليس لها آخر ولفترات تتجاوز مدة المؤتمرات والفعاليات المشارك فيها مرات عديدة في أغلب الأحيان بحجة الإعداد والتجهيز- على الرغم من أن الجهات المضيفة توفر للمشاركين خدمات سبعة نجوم تستحق أن تفرد لها صفحات في قصص ليالي ألف ليلة وليلة.
لم يكن يوما من أولويات إعلامنا وهو يطبل ليل نهار لخطط التنتمية الخمسية والعشرية والخمسينية مؤخرا، تسليط الضوء على موقع مستقبل الأجيال القادمة في هذه الخطط والتي للأسف لم تعترف بالأجيال حتى تهتم بمستقبلهم. والدليل على ذلك أنه بمجرد حدوث خضة سياسية بسيطة أو أزمة إقتصادية طارئة ومؤقتة حولنا، نجد العشرات إن لم يكونوا المئات من شبابنا من ذوي الكفاءات والخبرات يرمى بهم في أزقة البطالة وتدرج أسماؤهم مجددا في قوائم الباحثين عن عمل بعد أن قضوا عز شبابهم بعيدا عن أهاليهم وفلذات أكبادهم في الصحارى القاحلة وساهموا في اكتشاف وتطوير مناجم الذهب الأسود التي أتخمت عائداتها في زمن العز حسابات شركات النفط العالمية ووكلائها المحليين، الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء التفكير في مستقبل تلك الأيدي الكادحة والعمل على إنشاء صندوق يودع فيه جزء بسيط من فائض ما كانوا يلتهمونه من خيرات هذا البلد في زمن العز ليستفاد منه وقت الأزمات كالتي نمر بها حاليا ولما كنا اضطررنا إلى إنهاء خدمات أبنائنا.
لم يجد الإعلام في الحديث عن الأحوال المزرية للمحاربين القدامى وأعني بهم المتقاعدين الذين أفنى معظمهم حياتهم في خدمة هذا الوطن مادة تمنحم سبقا صحفيا. وبالتالي لم تعبأ بهم (وهؤلاء شريحة من المجتمع لا يستهان بها) وهم يركلون من المؤسسسات التي يعملون فيها ككرة أفرغت من الهواء داخلها ولم تعد صالحة للعب بها بحيث يبحث هذا المتقاعد في نهاية خدمته عن آلة حاسبة تساعده على جمع وطرح وقسمة ما سوف يصرف له من راتب التقاعد الذي قد لا يتجاوز الراتب الأساسي الذي أستلمه أول ما إلتحق بالعمل قبل ثلاثين أو أربعين عاما، عله يتمكن بهذا الراتب من الوفاء ببعض من إلتزاماته تجاه أسرته و حفظ ماء وجهه أمامهم. فبموجب الأرقام الرسمية التي أفصح عنها مؤخرا صندوق تقاعد موظفي الخدمة المدنية فإن متوسط ما يتقاضاه شهريا كل متقاعد مسجل لديه مبلغا وقدره 364 ريالا عمانيا، وهو مبلغ بالكاد يغطي إيجار شقة. أما المتقاعدون المسجلون في سجلات الهيئة العامة للتأمينات الإجتماعية (القطاع الخاص) فوضعهم أسوأ بكثير وكأن من وضع معادلة إحتساب حقوقهم أرادها لأن يكون تفسير هذه المعادلة مشروعا صالحا لرسالة دكتوراه.
والحقيقة أن المتقاعدون الذين يفترض أنهم مساهمون في رأسمال هذه الصناديق لا يعرفون لمصير مساهماتهم رأسا ولا حتى أقداما. حيث أنه في ظل غياب الشفافية وعدم إكتراث الإعلام بأخبار هذه الصناديق، لا يعلم هؤلاء المساهمون المفترضون أين تذهب أموالهم التي أقتطعت من رواتبهم شهرياً منذ أول راتبٍ تقاضوه، وإلى مدى زمني قد يصل إلى أربعين عاماً. أليس من حق هؤلاء أن يتساءلوا لماذا لا يتم الإفصاح عن حسابات واستثمارات صناديق التقاعد بمختلف أنواعها أسوة بالشركات التجارية. بل ألا يحق لهم المطالبة بنصيبهم من أرباح المشاريع التي تستثمر فيها هذه الأموال أسوة بصناديق التقاعد في العالم. علما بأن رواتب المتقاعدين نادرا ما تشهد أية زيادة منذ استحقاقها وحتى وفاة المتقاعد على الرغم مما يشهده الإقتصاد العالمي من نسب عالية من التضخم. وكان تصرف أعلامنا: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم.
ألم يكن من حق المواطن على الإعلام إنتشال دوائه وعلاجه من براثن المحتكرين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وكأن الجهة المعنية بإعلانها مؤخرا عن تخفيض سعر أغلب الأدوية بنسب وصلت إلى أكثر من 50% قد أماطت اللثام عن سر خطير وكشفت بموجبه أن المواطن طوال العقود الماضية كان يدفع ثمن الدواء أضعاف ما كان يدفعه رعايا الدول المجاورة. والله وحده يعلم هامش الربح المتبقي بعد التخفيض، بالمناسبة فقد تأجل تنفيذ الجزء الثاني منه، إذا علمنا أن بعض الأدوية أسعارها أضعاف أمثالها في الدول المجاورة أو المصدرة.
كانت وسائل الإعلام بكافة أنواعها تغط في سبات عميق وفي بيات شتوي وصيفي. وكانت تصحو من حين إلى آخر تستقبل مسؤولا وتودع آخر، تحضر رعاية مسؤول لحفل ما هنا، أوافتتاح معرض هناك، وهكذا.
وللأسف الشديد فإن إنعدام المتابعة والرقابة والشفافية جعلت مسؤولينا لا يتعلمون من الأزمات الإقتصادية التي عاصرناها أو من تلك التي وجدنا تفاصيلها في كتب التاريخ. فنرى خطط التنمية الخمسية والعشرينية والخمسينية على الرغم من كل ما يصرف عليها من مال ووقت وجهد، تنهزم وتقف حائرة أمام أول إختبار يواجهها، ونرى المسؤولين يتخبطون في تصريحاتهم فتختلط عليهم الأرقام ويبحثون عن حلول سريعة يحرصون أن لا تكون على حسابهم. نعم فارتفاع سعر البنزين وقطع غيار السيارات لا يعنيهم لأن سياراتهم لا تمر على محطات البنزين أو ورشات الصيانة إلا وأمر الشراء الرسمي موجود فيها. ورفع رسوم المأذونية والإقامة لا يهمهم لأنه مسبوق الدفع من قبل جهات عملهم. إرتفاع الأسعار لن يقض مضاجعهم فهي تتكيف مع علاوة غلاء المعيشة التي تصرف لهم. أما إرتفاع سعر إستهلاك الكهرباء والماء فعداداتها موصولة مباشرة مع خزينة مواقع عملهم لأن طبيعة عملهم تتطلب ان تكون الإضاءة والتكييف شغالا على مدار الساعة. أما في الجهة الأخرى فالمواطن المغلوب على أمره مشكوك في وطنيته فيما لو رفع حاجبه قليلا معبرا عن إستيائه من تلك القرارات التي قد تأتي على ما تبقى في جيبه الفارغ اصلا.
أليس من حقنا أن نتساءل لماذا أثناء الطفرة الإقتصادية التي شهدتها المنطقة بما فيها السلطنة لم تتم إضافة بعض العسل على خبز المواطن مما أنعم به الله على البلاد كزيادة في الراتب أو العلاوات، في حين يطالب المواطن عند الشدائد بتحمل ما يترتب على هذه الأزمات من تبعات، لا بل تتجرأ بعض الأقلام وتحمله مسؤولية ما يحدث وكأن هذا المواطن المسكين كان جزءا من منظومة إتخاذ القرارات في البلاد وليس متلقيا لهذه القرارات الفردية في أغلب الأحيان وواجبة التنفيذ دون نقاش.
لقد آن الأوان لأن نقول للصواب صوابا وللخطأ خطأ مع مراعاة تامة لأدب الحوار والنقد البناء واحترام حق الآخر وحريته، إلا إذا كان للخطأ معنى آخر نجهله فنرجوا من فطاحل اللغة أن يتحفونا به علنا نستفيد منهم ويكسبون الأجر فينا. أما إذا كان القصد هوالمزايدة في الوطنية على الآخرين وتخوينهم، فعندها يجب رفع البطاقة الحمراء في وجه كل من يسمح لنفسه بذلك.
فالمنطق يقول إن الخطأ خطأ والصواب صواب ولا يمكن أن يكون الخطأ صوابا هذا ما تعلمناه منذ نعومة أظفارنا وبهذا المنطق تستقيم الأمور وتتقدم الدول. ولا يملك أحد الحق لأن يسلبنا حرية التعبير لأننا وباختصار لن نرضى لأنفسنا لأن نكون دوابا بكماء تقاد إلى المسلخ. ويجب أن لا تكون هناك خطوط حمراء لممارسة حق النقد البناء – وأؤكد النقد البناء – سوى مصلحة الوطن في المحطة الأولى ثم شخص قائد هذا الوطن حفظه الله وأمد في عمره أعواما وأخيرا حرية الآخرين.
إن الإنجازات التي تحققت خلال هذا العهد الزاهر لا شك أنها مصدر فخر لكل مواطن. وهي تتحدث عن نفسها ولا تحتاج إلى شهادة أو إشادة أو إطراء من أحد. ولأن سلسلة هذه الإنجازات لا بد أن تستمر، فلا بد من إلقاء الضوء على الجانب المظلم من مسيرتنا ومراجعة ما تحقق بهدف معرفة ما قد يكون شابها من سلبيات لتفادي الوقوع فيها مجددا ونحن نخطط للمزيد من الإنجازات. وهنا يصبح من الضروري أن يسمح للمواطن الإدلاء بدلوه من خلال إستشارة أو نصيحة أو نقد هادف في جميع ما تحقق وكل ما يتم التخطيط والإعداد له للمستقبل من خلال القنوات الشرعية المتمثلة في ممثليه في مجلس الشورى أو وسائل الإعلام المحلية أو وسائل التواصل الإجتماعي.
ولكن للأسف الشديد تبرز بين حين وآخر أقلام وأصوات تصر على مصادرة أفكار الآخرين وآرائهم وأصواتهم وتعيش عصر الأخبار والتقارير المعلبة وتنظر إلى القرارات بعيون من يتخذها فتقع في هاوية المجاملات التي تصل أحيانا إلى درجة النفاق. ويا لها من آفة عانينا من آثارها المدمرة فترة طويلة من الزمن كلفتنا أثمانا باهضة أبطأت بعض مشاريعنا وفرملت أخرى بل وأجهضت عددا منها.
على كل حال، لقد إحتفلنا جميعا قبل أسابيع بعيدنا الوطني المجيد، وزراء ووكلاء ومدراء عموم ورؤساء مجالس الإدارة في الشركات ورؤساء تنفيذيون وموظفين. ولا شك أنها مناسبة جليلة تستحق منا هذا الإحتفاء لأن أقل ما يمكنني أن أقول عنها وأنا قد عشت فترة من عمري في عهد ما قبل النهضة المباركة، أنها أخرجتنا من ظلمات التخلف إلى نور التطور والرقي. جميعنا تباهينا بإخلاصنا للوطن واستعدادنا للتضحية من أجله. وبما أن بلادنا الحبيبة مقبلة في القادم من الأيام على أيام أو لا سمح الله سنوات عجاف على إثر انهيار أسعار النفط، فإنني أتمنى ترجمة الشعارات التي رفعناها إلى فعل.
وكما هو واضح وجلي مما سبق فإن أغلب القرارات التي تم تبنيها لمواجهة تبعات الأزمة المالية تتسلل خلسة إلى جيب المواطن متتعدد الثقوب. والمواطن العماني معروف بطبعه بحبه لوطنه وطاعته لولي الأمر والتعايش مع المواقف الصعبة ولو على حساب مصلحته الشخصية. وحتى يتساوى المواطن والمسؤول في السراء والضراء إسمحوا لي بتقديم إقتراح قد يدفع المسؤول إلى الإحساس بالمسؤولية وفي الوقت نفسه يساهم في تخفيف بعض العبء عن الدولة التي أعربنا عن إستعدادنا للتضحية من أجلها.
فكبار المسؤولين في القطاع العام من وزراء ووكلاء ومستشارين ومدراء عموم لقمتهم الدولة سمنا وعسلا طوال السنوات السمان. في حين أن رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة في الشركات ورؤساؤها التنفيذيون بالغوا في تحديد مخصصاتهم ومكافآتهم طوال السنين الماضية ولم يعترض عليها أحد.
إنني أدعو بموجب هذا الإقتراح هؤلاء المسؤولين ممن تصرف لهم مستحفاتهم راتبا شهريا، أن يتنازلوا عن راتب شهر واحد من هذا العام والأعوام القادمة إذا استمرت الأزمة لا سمح الله. وأن يتنازل رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيون في شركات القطاع الخاص عن مكافآتهم السنوية لهذا العام والأعوام القادمة إذا لزم الأمر خاصة وأن هذه المكافآت تعتبر دخلا إضافيا لهم فهم يتقاضون رواتبهم من الجهات التي يمثلونها وتصرف لهم مبالغ مقابل حضورهم إجتماعات مجالس الإدارة. على أن يتم إيداع هذه الأموال في صندوق يساهم في ضمان استمرارية ولو جزء من الإلتزامات المهمة كالبعثات الدراسية لأبنائنا التي يجب أن لا تتوقف ومخصصات الضمان الإجتماعي وغيرها. فالجميع مدعو للمساهمة في تخفيف أثر هذه الأزمة كل حسب إمكانياته وطريقته، وبهذا نكون قد أتبعنا قولنا بالفعل وتعم فرحة الأعياد القادمة الجميع، وتكون إحتفالاتنا بالفعل عفوية ونابعة من قلوبنا بعيدا عن النفاق.
فالوطن غالي وجدير بأن نحتضنه جميعا بالإيثار ونفديه بالتضحيات، ولكن يجب أن نتذكر أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. من هنا تصبح مشاركة المواطن الحقيقية حتمية في رسم السياسات واتخاذ القرارات التي تعني حاضره ومستقبله ومستقبل الأجيال القادمة خاصة وأننا قد أبدعنا في إنتاج نظام مؤسسساتي يحسدنا عليه الكثيرون ولكن ينقصه التفعيل الحقيقي والشامل. كما أن المؤسسات والهيئات الرقابية مطالبة بأن لا تكتفي باستخدام أجهزة ضبط المخالفات بل مدعوة للإستعانة بقرون الإستشعار لأننا بحق يجب أن لا نوفر أية فرصة أخرى للمفسدين في الأرض لإفساد وإضاعة عقود أخرى من عمر نهضتنا المباركة بسوء تخطيطهم.