2013/08/16

البقيع الغرقد .. أنة وأهة عظمى

البقيع الغرقد .. أنة وأهة عظمى

البقيع الغرقد، هو أحد المقابر التاريخية الواقعة في مدينة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، والذي دفن فيه أربعة من أئمة أهل البيت عليهم السلام وهم الإمام الحسن بن علي عليه السلام، والإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام، والإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام، والإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام. كما دفنت فيه السيدة فاطمة بنت حزام الكلابية أم البنين، والدة العباس بن أمير المؤمنين وأخوته الأربعة عليهم السلام. كما تقول بعض المصادر التاريخية أن عددا كبيرا من الصحابة والتابعين، وبعضا من أزواج النبي وبني عمومته صلى الله عليه واله وسلم قد دُفنوا في مقبرة البقيع، وتشير مصادر أخرى إلى أن 10 الاف صحابي قد دُفنوا في مقبرة البقيع.

إن دفن هذا العدد الهائل من صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم في مقبرة البقيع، علاوة على وجود مقابر لأربعة من أطهر الخلق بعد جدهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في هذه المقبرة أضفى عليها قدسية هائلة حملت الناس على زيارتها والتبرك بمقابر هؤلاء العظام، والتوسل بهم إلى الله سبحانه وتعالى لقضاء حوائجهم. وقد كانت زيارة البقيع الغرقد سنة نبوية، فقد ورد أن النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم كان يزورها في كل ليلة وكان يقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".

إن هذه القدسية الكبيرة للبقيع الغرقد وأهتمام سيد الخلق صلى الله عليه واله وسلما بها لم تُثني الفرق التكفيرية على ارتكاب جريمة شنعاء في الثامن من شوال سنة 1344 للهجرة النبوية، بهدم مقامات وأضرحة المدفونين في هذه المقبرة الشريفة وفيهم من فيهم وهدموا جميع الآثار التاريخية الموجودة منذ عصر النبوة وما بعدها وساووها بالأرض. وفي هذا يقول عبدالله بن حسن باشا في كتابه صدق الخبر ما نصه: "إن الفرقة أجبروا كثيرا من الناس على مساعدتهم ومعهم الرفوش والفؤوس، فهدموا جميع ما في المعلى من آثار الصالحين وكانت كثيرة، ثم هدموا قبة مولد النبي (ص) ثم مولد أبى بكر، والمشهور بمولد سيدنا علي (ع) وقبة السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، وتتبعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين، وهم أثناء هدمهم يضربون الطبول ويرتجزون مبالغين في شتم القبور التي هدموها، ولم تمضي ثلاثة أيام إلا وقد محوا عموم تلك الآثار المباركة، وقد نهبت الفرقة كل ما في الحجرة النبوية من التحف والأموال والمجوهرات، وطردوا قاضي مكة وقاضي المدينة ومنعوا الناس من زيارة النبي(ص)".

ولو تتبعنا تاريخ الأمم والحضارات فإننا نجد كل حضارة وأمة قد اهتمت اهتماما بالغا بتراثها ومعالمها، وأبرز دليل على ذلك في تاريخنا الحالي هم اليهود الذين استوطنوا فلسطين، هؤلاء يزعمون أن هيكل النبي سليمان عليه السلام تحت المسجد الأقصى، وهم يحاولون بكل ما يمكنهم من قوة إعلامية وعسكرية وعلمية بأن يبحثوا تحت المسجد الأقصى ويحفروا تحته. فاهتمامهم بماضيهم وتراثهم جعلهم يسعون سعيا حثيثا إلى بناء مستقبل لهم والتأكيد عليه وبثه لأجيالهم اللاحقة.

أما فرق التكفير فقد محت كل أثار النبوة والرسالة وما زالت تدعو إلى محوها وتدميرها وعلى هذا الدرب هم سائرون وهذا ما نشاهده في هذه الأيام من حوادث يندى لها الجبين، فإنهم يزيلون ويدمرون كل ما يمت إلى الرسالة النبوية والدعوة المحمدية بصلة بدعوى أن إقامة القبور "بدعة" قد ابتدعها أعداء الدين، ولست أدري أين هم عن الأية المباركة حينما يتحدث الله تعالى عن أهل الكهف: "إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا" [الكهف:21]، ولو كان إقامة القبور والبناء عليها واتخاذها مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى بدعة كما يدعون لنهى عنها القرآن الكريم وصرح ببدعتها نبي الإسلام صلى الله عليه واله وسلم، ولكن كل ذلك لم يحدث، وهذا يدل على أن إقامة المقامات والأضرحة على القبور ليست بدعة. كما أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قد دفن عمه الحمزة الذي استشهد في معركة أحد ووضع حجرا على قبره، إشارة إلى إقامة القبور.

إن هدم القبور والأضرحة الموجودة في البقيع الغرقد لهي فاجعة عظمى حلت بأمة الإسلام، ولا تزال تلك الفاجعة تلقي بظلالها علي الأمة الإسلامية وسوف تزال تسري في جسدها وتنخره نخرا إلى حين إعادة حق محمد وآل محمد عليهم السلام المغتصب ببناء الأضرحة في البقيع، فإن مظلومية أهل القبور في البقيع ولا سيما أئمة أهل البيت الأربعة عليهم السلام لا تزال سارية ومن ظلمهم هي تلك الفرق التكفيرية التي لا تريد إلا الشر والسوء بالإسلام وأهله، والتي لا تزال تكيد بالإسلام والمسلمين وتقتلهم عند كل حجر ومدر بدعوى التوحيد ونشر لوائه.

إنها لمصيبة عُظمى وفاجعة كبيرة هدم مقابر الأئمة الأربعة عليهم السلام في البقيع وهدم أثار الرسالة المحمدية في تلك البقعة الشريفة، وواجبنا كمسلمين هو الذود والدفاع عن هذه الأثار والمطالبة بإرجاعها إلى سابق عهدها بل إلى أفضل مما كانت عليه، فكما يقال: "من لا يفتخر بتاريخه وماضيه، فليس له مستقبل أبدا"، وهذه الأثار هي التي تدلنا وترشدنا إلى رسولنا الكريم صلى الله عليه واله وسلم، وهي التي تزيد من قوة عقيدتنا وتعلقنا به صلى الله عليه واله، وهؤلاء المدفونون بهذه الأرض الطيبة هم من خيرة البشر على وجه الأرض، وهم من ضحوا بأنفسهم وأموالهم وكل غالٍ ونفيس مما يملكون من أجل استمرار هذا الدين العظيم وضمان وصوله إلى الأجيال اللاحقة.

وما ذكرى "يوم البقيع العالمي" إلا رد جزء بسيط من الدين الذي علينا لهؤلاء العظام، ولكي يتذكر المسلمون ما حل بأثار النبوة والرسالة، وما حصل في تلك البقعة الطاهرة التي كانت في زمن سابق مكانا يزوره النبي صلى الله عليه واله وسلم، ويزوره المسلمون من كل حدب وصوب. فحري بنا أن نتعاهد جميعا باستذكار هذا المصاب الجلل وبيانه للعام والخاص وعدم نسيانه وتمريره للأجيال القادمة، وأن نتعاهد جميعا ونعاهد الله سبحانه وتعالى وصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف بأن نكون من الذين يعيدون بناء قبور أئمة البقيع عليهم السلام ويعيدون بناء أثار النبوة والرسالة المحمدية. حقا إن في الثامن من شوال آهة وأنة عظمى.


رضا بن عيسى اللواتي
مسقط - سلطنة عمان
نشرت في مدونة مدونون بتاريخ 16/8/2013

2013/08/14

لمحة نظام من المانيا

لمحة نظام من المانيا

أصبح لي في جمهورية ألمانيا ما يناهز الشهر، وقد رأيت فيها ما لم أره بل ما لم أتخيله في بلادي سلطنة عمان أو أيٍ من الدول العربية التي زرتها. هنا في المانيا، التطور سريع جدا، كل شيء يتطور، البشر، العمران، المستشفيات، والطرقات وكل شيء، وتطورهم سريع جدا. كل شيء عندهم دقيق ومنظم، وكأنما كل شيء يتم عن طريق الآلات، فمثلا ما إن تدق الساعة التاسعة مساءً من كل يوم حتى تجد جميع المحلات التجارية والمطاعم قد أُغلقت جميعها إلا ما ندر. كما أن التنقل عندهم سهل يسير ولا يحتاج لأن نقف في زحمة روي أو الخوض أو الخوير.

وسوف أتحدث عن أكثر ما أعجبني في هذه الدولة بل ومعظم الدول الأوروبية، ألا وهو نظام النقل. في أوروبا لا وجود للسيارات الخاصة للنقل إلا نادرا على عكس ما يحدث في أغلب دولنا العربية، بل نجد الحافلات العامة، نظام الترامات، نظام الميترو ونظام القطارات البطيئة والسريعة، كما لا أنسى سيارات الأجرة وهي الوحيدة المتواجدة في سلطنة عمان. عند الحديث عن هذه الأنظمة والمسارات لا بد من ذكر كل منها على حدة حتى يأخذ كل نظام حقه من البيان.

في بداية الأمر يشتري الراكب بطاقة نقل يومية أو اسبوعية أو شهرية بمبالغ رمزية جدا، ويستطيع استخدامها في جميع وسائل النقل التي سوف يتم ذكرها.

بدايةً بنظام الحافلات، فإنها تتواجد بشكل مكثف عند كل محطة، وما بين كل محطة وأخرى مسافة 5 كيلومترات تقريبا، ولكن الأجمل من ذلك أن كل شيء يتم وفق نظام زمني دقيق، فعندما تصل إلى محطة الحافلات تجد لوحة الكترونية مكتوب عليها، بعد 5 دقائق ستصل الحافلة الذاهبة إلى المحطة (أ)، وبعد 7 دقائق ستصل الحافلة التي سوف تقل الراكبين إلى المحطة (ب) وهكذا، والمفاجأة أن بعد 5 دقائق تصل الحافلة الذاهبة إلى المحطة. تستقل الحافلة المتجهة إلى المحطة (أ)، وللعلم فهي المحطة النهائية التي سوف تقف عندها الحافلة، لتذهب بك إلى جميع المحطات في مسارها. وتجدر الإشارة إلى وجود شاشة صغيرة في الحافلة تخبر الركاب باسم المحطة التي تقف عندها لتكون على بينة ومعرفة من طريقة واتجاهك.

النظام الثاني هو نظام الترامات، نظام يشابه نظام الحافلات ولكنه يأخذ عددا أكبر من الركاب وله خط سير محدد، ويقف أيضا في محطات تبعد عن بعضها ما يقارب 1.5 كيلومترا، وعند كل محطة سوف تجد لوحة مكتوب عليها مواعيد وصول كل الترامات. في كل محطة سوف تجد ثلاثة أو أربعة مسارات للترامات وكل منها يذهب في اتجاه غير الآخر. في الترام يوجد نظام صوتي يخبرك بالمحطة التالية التي سوف يقف فيها الترام. الإيجابية في نظام الترامات هو عدم تأثره بالازدحام المروري في معظم الأحيان، وله اشارات ضوئية تحدد مساره في حال تقاطع مساره مع مسار السيارات والحافلات، كما أن هذا النظام لا يستخدم الوقود للعمل أبدا، بل يعتمد على الطاقة الكهربائية في حركته.

بالانتقال إلى النظام الثالث وهو نظام الميترو، نظام القطارات التي تسير تحت الأرض، فقد بُنيت لها أنفاق لتصل مختلف مواقع المدينة بعضها بالبعض الآخر، هي أسرع من الحافلات والترامات، ولكن ربما لا يمكن أن نستخدم هذا النظام في بلادنا لعدم وجود البنية التحتية الكافية لعمل مثل هذه الأنظمة، ولكن يمكننا أن ننشئ نظام ميترو فوق الأرض كما فعلت إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، مع توفير مواقف للسيارات بجانب كل محطة للترامات.

أما النظام الأخير فهو نظام القطارات، وهو النظام الذي يربط مدناً ببعضها البعض، وفيه مختلف أنواع القطارات، من حيث جودتها وسرعتها، فمنها ما هو بطئ وذلك للتنقل ما بين المناطق البعيدة في نفس المدينة أو مدن قريبة، ومنها ما هو سريع وذلك لإيصال الراكب إلى مدن بعيدة عن بعضها. وهنا لا يمكن اسخدام نفس التذكرة، فلابد من شراء تذكرة أخرى بمبالغ مختلفة، تختلف بحسب المسافة التي سوف تقطعها ونوع القطار المستخدم.

وهنا يُطرح سؤال مهم جدا للقائمين على مثل هذه المشاريع، وهو لماذا لا يتم توفير أنظمة النقل هذه والبداية بها في السلطنة، فإن وجود مثل هذه الأنظمة سوف يوفر فرص عمل للشباب من مختلف الفئات والقضاء على البطالة في بلادنا، سواء كان ذلك في وقت إنشاء هذه الأنظمة وأيضا بعد وجودها. الأمر الآخر الذي سوف يفيدنا وهو تقوية السياحة في السلطنة، حيث سيصل السائح إلى المناطق السياحية في السلطنة بوسائل نقل سريعة مع استخدام بطاقات النقل ذات أسعار رمزية، من دون الحاجة إلى المرور في الازدحام أو استئجار سيارة خاصة له.

كما أن هذه الأنظمة سوف تقلل من الازدحام المروري الذي يؤرق مضاجع الكثيرين ويؤخرهم عن أداء مهامهم، وهذا الأمر لا يحدث فقط في محافظة مسقط التي هي عاصمة السلطنة بل في مختلف محافظات السلطنة. مضافا إلى ذلك، فإن استخدام وسائل نقل مختلفة غير السيارات، فإنها تقلل من عدد حوادث المرور والتي تحصل بشكل يومي تقريبا في السلطنة، وتحصد مئات الأرواح البريئة كل يوم.

من جانب آخر، فإن مثل أنظمة النقل التي نتحدث عنها تحد من التلوث الناتج من عوادم السيارات والحافلات التي تستخدم الوقود، وذلك لأنها تستخدم الطاقة الكهربائية بدلا من الطاقة الناتجة عن احتراق الوقود، وتقليل التلوث لهو أمر مهم للبيئة والإنسان، وكم تحدثت الأقلام وتكلم المختصون عن مضار التلوث الناتج من احتراق الوقود والبنزين.

استمرارا بالحديث عن الوقود، فإن البترول لا بد له من النفاد عاجلا أم آجلا، وإذا ما نفد في بلادنا فما هي البدائل المتوفرة عندنا من أجل النقل، ولهذا لا بد من التفكير مليا في أنظمة نقل أخرى لا تعتمد على الوقود بشكل تام وإنما تعتمد على بدائل له من قبيل الطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية في المستقبل، لأن هاتين الطاقتين من الطاقات التي لا تنضب وذلك لتحل محل أنظمة النقل التي تستخدم الوقود والبنزين من أجل عملها.

في الأخير، أتمنى من المسؤولين التفكير مليا في هذا الأمر، فإن له من الفوائد الكثير جدا، أكثر مما تم ذكره آنفا. والشكر للمسؤولين على عملهم الدؤوب في سبيل توفير سبل الراحة والتطور للمواطنين.



رضا بن عيسى اللواتي
مسقط – سلطنة عمان
نشرت في جريدة الرؤية بتاريخ 14/8/2013.
نشرت في صحيفة البلد الالكترونية

2013/08/13

الإمامة الدينية .. ضرورة ملحة

الإمامة الدينية .. ضرورة ملحة

الإمامة الدينية .. ضرورة ملحة

منذ أن نشأت البشرية وعلى مر العصور والأجيال فإنها لا تخلو من قائد يسير بها وإمام تحتذي به. وكانت الأمم إما أن تُنصب قائدا لها حسب معطيات زمانها وإمكانيات ذلك القائد وحسب مصالحها الشخصية أو يُنصب ذلك القائد نفسه على أمته فتكون هاتين القيادتين من وضع البشرية. وإذا ما ارتقينا إلى مستوىً أعلى فقد كانت الإرادة الإلهية تتدخل لتنصيب قائد على أمة ما، فنجد تدخل القدرة الإلهية في كثير من الأحيان لتنصيب ذلك الفائد حفاظا على البشرية، كملك النبي سليمان عليه السلام مثلا، فقد كان له من الملك ما لم يكن لأحد قبله، كذلك عندما أمر الله بني إسرائيل بإطاعة طالوت ملكا عليهم رغم كون مستواه المادي متدنيا مقارنة بغيره من بني إسرائيل إلا أن الله زاده بسطة في العلم، على الرغم من أنه لم يكن نبيا. كما تدخلت الإرادة الإلهية فجعلت النبي الأكرم محمد بن عبدالله صلى الله عليه واله وسلم إماماً وهاديا للناس يسير بهم نحو الطريق القويم.
ولأن الإسلام خاتم الرسالات السماوية والنبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم هو خاتم الرسل فإن وجود إمام أو قائد إلهي بعده صلى الله عليه واله وسلم، يسير بالناس نحو الصراط المستقيم لهو أمر مهم للغاية، لأن كمال البشر في وجود قائد بعد الرسول يدل الناس على ما يخفى عليهم ويوجههم نحو السمو والرفعة، ودلالة ذلك قوله تعالى:“إنما انت منذر ولكل قوم هاد” [الرعد:7]. والفرق في الأية بين النبي والإمام واضح جلي لكل ذي عقل فالنبي مبشر ومنذر ومخبر للناس بعواقب الأمور ومحدثهم عن الحلال والحرام من الأشياء، ويدلهم على الطريق الذي يجب أن يسلكوه، أما الإمام فهو من يأخذ بيد الناس نحو الطريق الذي دلهم عليه النبي من قبل ويرجعهم إلى الجادة إن إنحرفوا عنها كما بينها الله تبارك وتعالى في قوله: “وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون”[السجدة:24].
ومن هنا، يتضح بأن خلو الأرض من هادٍ وحجةٍ لله بعد نبيه صلى الله عليه واله وسلم يتنافى مع قاعدة اللطف الإلهي عندما يقول تعالى:“الله لطيف بعباده” [الشورى:19]، فوجود الإمام هو تكلمة لوجود النبي صلى الله عليه واله، وكما كان وجود النبي صلى الله عليه واله لطفاً إلهيا لهداية البشر، فوجود الإمام هو أيضا للسير على ما خطه النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، لذا كانت الإمامة جعلا إلهيا وتنصيبا إلهيا وليس للبشر أي تدخل في هذا الشأن، قال الله تبارك وتعالى: “وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين”[الأنبياء:73].
وأختم حديثي برواية عن الإمام الصادق عليه السلام كما وردت في تفسير البرهان“ ألا تحمدون الله؟ أنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كُلّ قوم إلى من يتولونه، وفزعنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وفزعتم أنتم إلينا”.


رضا بن عيسى اللواتي
مسقط - سلطنة عمان
نشرت في مدونة مدونون بتاريخ 12/8/2013

2013/08/02

شهر رمضان يَجْمَعُ النقيضين

شهر رمضان يَجْمَعُ النقيضين


         من المعروف أن شهر رمضان المبارك هو شهر تنقية الروح من الشوائب، وشهر تصفية النفس من ملذات الدنيا والابتعاد عن كل ما شأنه أن يَحُطَ من سمو الروح ويمنع صعودها على مدارج الكمال. ومن المعلوم أيضا أن الذي ينتهي عليه شهر رمضان المبارك من دون أي تغيير في روحه ونفسيته فإنه يكون قد خسر الكثير الكثير. فشهر مثل هذا الشهر ليس فقط للصيام وقراءة القرآن، بل "هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله تعالى" كما ورد عن رسولنا الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، وعندما يكون أحدنا ضيفا على ملك من الملوك فإنه يذهب إليه بأحسن حلة وأفضل شكل، فكيف بنا ونحن في ضيافة ملك الملوك ورب الأرباب، أليس حريا بنا أن نظهر بأفضل حلة ونكون بأبهى زي.

          في هذا المضمار، فإن المسلم في هذا الشهر يُكثر من قراءة القرآن الكريم فكما ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: "من تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور". ونرى أيضا مجالس تحفيظ القرآن وتعليمه للجيل الواعد، كما نرى حلقات شرح القرآن في مساجدنا. ويكثر في هذا الشهر الفضيل زيارة الأرحام امتثالا لأمر صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه حين تحدث عن هذا الشهر فقال: "من وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه". بالإضافة إلى ذلك، فإن بيوت الله يكثر فيها الناس، ويقبلون بشغف على المساجد ويحيون ليلها ونهارها بالعبادة وقراءة القرآن وحلقات الذكر والدعاء وغير ذلك. إن كل ما تم ذكره أعلاه هي عادات إيجابية ينبغي المحافظة عليها من قبل الفرد والمجتمع لما لها من أثر بالغ في حياة الإنسان في الدنيا فضلا عن الآخرة.

          وعلى النقيض تماما، فإن هذا الشهر المبارك لا يخلو من ممارسات خاطئة كثرت في مجتمعاتنا، وهي في الحقيقة مخالفة تماما لما كان عليه المسلمون في الصدر الأول من الإسلام. فنرى الآن بأن الإنسان المؤمن تقل فاعليته ويقل عمله وانتاجه سواء كان انتاجا في العمل أو انتاجه الفكري والمعرفي في هذا الشهر، فنراه يُكثر من النوم ويقوم بعمله بأقل طاقة لديه فتقل الطاقة الانتاجية لهذا الفرد، كما تقل أيضا الطاقة الانتاجية والأداء المعرفي للطالب في المدرسة أو الجامعة.

          ولعمري إن هذا لخطأ كبير، فقد كان المسلمون الأوائل - وهم قدوة لنا - يعملون في شهر الله الكريم، وينجزون أكثر من انجازهم في الأشهر الأخرى، ولنا مثال واضح المعالم حول هذا، ففي هذا الشهر بالذات خاض المسلمون أول معركة كبيرة مع أعدائهم من قريش وهي معركة بدر الكبرى ولا حاجة لنا في الدخول إلى تفاصيلها الدقيقة. بيد أن هذه المعركة كانت في شهر رمضان المبارك، وربما كانت ممارسة الصبر عمليا في الميدان من أكبر الفوائد التي تجلت من خلال حدوث المعركة في هذا الشهر، فهم كانوا يكتوون بنار الصيام ونار المعركة، ومع ذلك صبروا وانتصروا في نهاية المطاف، وهذا درس مهم نتعلمه من هذه المعركة.

          الأمر الآخر الذي يُلاحظ انتشاره في هذا الشهر المبارك، هو أصناف الطعام والشراب التي توضع على مائدة الإفطار إلى حد الإسراف والتبذير وقد نهى الله تعالى عنهما حين قال في القرآن المجيد: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"، وقال رسوله الكريم صلى الله عليه واله وسلم: "إياكم وفضول المطعم فإنه يسم القلب بالفضلة، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة، ويصمّ ُالهمم عن سماع الموعظة". ما يحدث الآن من وضع أصناف منوعة من الطعام – ربما أكثر من الشهور الأخرى – مخالف لهدف الصيام وهو الإحساس بمعاناة الفقراء والمساكين ومن لا عهد لهم بالشبع ولا طعم لهم بالقُرص. وكما يعلم جميعنا قول النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم: "صوموا تصحوا"، والذي تعلمناه في مدارسنا، فلا غرو أن يكون الإسراف منافيا ومخالفا لأمر النبي صلى الله عليه والحكمة من الصيام في هذا الشهر المبارك.

          الجدير بالذكر، أن العلم الحديث قد أشار إلى أن الإسراف في تناول الطعام عند الإفطار وما بعده له من السلبيات الكثير والتي يظهر تأثيرها على الجسم مع مرور الوقت، ويذكر المختصون أنه يفضل الإكتفاء بالطعام المناسب عند الإفطار ثم وجبة قبل الذهاب إلى النوم بثلاثة ساعات ومن ثم وجبة أخرى وقت السحور. ونصيحة أخصائي التغذية هي الإكثار من شرب الماء وأكل الفواكه والخضروات والمواد التي تحتوي على الحبوب بدلا من الطعام الملئ بالمواد الدهنية المضرة بالصحة.

          الأمر الأخير الذي أود ذكره، هو الإدمان على مشاهدة التلفاز، ومن بينها المسلسلات المتنوعة وبرامج المسابقات، وللأسف فإن المنتجون يستغلون هذا الشهر أيما استغلال من خلال الكم الغفير من المسلسلات التي تُبث في هذا الشهر، وكأن شهر رمضان المبارك قد وُجد لمشاهدة التلفاز بل والإدمان عليه. إن بعض هذه المسلسلات قد تدخل في إطار "ما يُحرم مشاهدته"، كما يقضي الفرد في متابعة المسلسل تلو المسلسل ولا يقوم من مقامه إلا ووقت الإفطار قد دخل، وقد تُلهيه هذه المسلسلات عن وقت الصلاة، وليت شِعري أي شقاء أكثر من هذا الشقاء وأي فائدة يجنيها الإنسان من متابعة المسلسلات "الغير هادفة" فينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه واله وسلم: "إن الشقي حق الشقي من خرج من هذا الشهر ولم يُغفر ذنوبه"، ويقول أيضا: "فمن لم يُغفر له في رمضان ففي أي شهر يغفر له؟!".

          نعم، هناك بعض المسلسلات والبرامج الهادفة، وبعض القنوات المحبذ مشاهدتها في كل حين وآن. وهي التي يجب على الإنسان أن يحاول مشاهدتها والاستفادة منها قدر المستطاع ليكون قد تحصل على فائدة تضاف إلى الفوائد التي يتحصل عليها في هذا الشهر المبارك.

          ختاما، إن هذا الشهر هو شهر الحصول على الجوائز من الله تبارك وتعالى، وهو شهر الحصول على المغفرة والرضوان والفوز بالجنة فالشياطين فيه مغلولة وأبواب الجنان فيه مفتوحة، فعلينا جميعا أن نتسابق ونتنافس لبلوغ أسمى الدرجات، فهذا هو أفضل التنافس وهو قول الله تعالى: "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ". وكل عام والجميع بخير.


رضا بن عيسى اللواتي                                                                                                       
مسقط – سلطنة عمان                                                                                                         
                                                                       نشرت في صحيفة البلد الالكترونية وجريدة الرؤية