2013/11/24

وللحكاية الأولى تتمة

وللحكاية الأولى تتمة


تمضي الأيام وأنا اتدرب في المستشفيات لتحقيق حلم طال انتظاره، وكعادتي أذهب إلى المستشفى لقضاء الوقت مع المرضى في أيام الإجازة الاسبوعية، حتى اتمكن من معرفة تاريخهم المرضي ومعاناتهم بشكل يومي. وبينما أنا اتابع حالة أحد المرضى، فاجأني أحد أقاربه قائلا: "دكتور، عندي سؤال عن حالة أخي المرضية، فهل لك أن تخبرني بخفاياها". أجبته كعادتي في مثل هذه المواقف "إنني ما زلت طالبا ولا أستطيع الإجابة على تساؤلاتك ولكنني سوف استشير أحد الأطباء المناوبين هذا اليوم". ذهبت إلى غرفة الأطباء وشاهدت طبيبا – أجنبيا - يقوم بعمله في تلك الأثناء، قدمت له التحية وعرفته بنفسي ثم أخبرته: "دكتور أخ المريض الفلاني .....". قاطعني الطبيب وقال لي بعصبية:" أنا هنا لأن لدي بعض الأعمال لأنجزها، اليوم ليس يوم مناوبتي، فلا تسألني عن أي مريض، لا أعلم عنهم شيئا"، وأكمل عمله كأن شيئا لم يكن. أما أنا فبقيت صامتا لا ألوي على شيء. ذهبت إلى الرجل وأخبرته بأن الطبيب مشغول وأنني سوف أبحث عن طبيب آخر ليشرح لك حالة أخيك.

لقد تعلمنا منذ الأيام الأولى لنا في كلية الطب بأن للمريض وأهله حق في معرفة تفاصيل المرض، وأن احترام المرضى وكذلك احترام زملاء المهنة واجب أيضا، وكذلك أخبرونا وكانوا يزرعون في أنفسنا أن نضحي بما نملك من أجل أن نلبي حاجة مريض أو نجيب على سؤال قد تبادر إلى أذهان هؤلاء الأقارب. لكن هذا الطبيب باسلوبه القاسي قد نسف كل هذا وتركه هباء منثورا. لحسن الحظ أن هذا لم يكن أمام المريض، ولحسن الحظ أنني لا زلت اعتقد أن هذا الأسلوب ما هو إلا أسلوب شاذ غريب عن أساليب وطرق بقية الأطباء، وأنهم – وبحمد الله – لهم أساليب أفضل في التعامل مع المرضى.

وعلى النقيض من هذا الموقف، كنت ذاهبا إلى المستشفى صباح أحد الأيام وللأسف كنت متأخرا بعض الشيء، وصلت إلى القاعة التي يُعقد فيها الاجتماع الصباحي لجميع الأطباء، ولكني لم أجد أحدا هناك، سألت الممرضات في القسم، فأجابتني أحدهم:" إن حادثا مروعا وقع صباح اليوم وتم نقل جميع المصابين إلى هذا المستشفى، وقد ذهب أغلب الأطباء لقسم الطوارئ للمساعدة هناك". التضحية عند هؤلاء الأطباء وصلت بهم إلى أن يذهب الجميع لانقاذ مصابين بسبب حادث سير، ذهبوا إلى هناك لمساعدة أطباء الطوارئ والعمل معهم بروح أخوية وكفريق واحد لانقاذ ما يمكن انقاذه. ولم يقل أحدٌ منهم إن اليوم ليس يوم مناوبتي أو لا استطيع، الكل ذهب ليقدم المساعدة، وهذا ما تعلمته منذ أيامي الأولى في كلية الطب. للإشارة فقط، فإن حوادث السير تتضاعف يوما بعد يوم، وكم اتمنى أن يكون لنزيف الدم الذي يتكرر كل يوم وكأننا في حرب شعواء مع أنفسنا، أن يكون له نهاية.

أستمر في التدريب كل يوم وأتعلم في كل يوم معلومة جديدة، سوف تساعدني هذه المعلومة بالتأكيد في خدمة المرضى مستقبلا. ولكن ما أتعلمه بشكل أكبر هو كيفية التعامل مع المرضى، الحديث معهم، شرح الحالة المرضية للمريض نفسه، كل ذلك برفقة الطبيب المسؤول. يصحح لي أخطائي، ويرشدني إلى الطريق السليم لإيصال المعلومة الكاملة بالطريقة المناسبة من دون أن اتسبب في الأذى للمريض؛ لكي ينطبق عليَّ المثل القائل "الرجل المناسب في المكان المناسب".




رضا بن عيسى اللواتي
مسقط - سلطنة عمان
نُشرت في مجلة "نبض" - كلية الطب والعلوم الصحية
جامعة السلطان قابوس
لقراءة الحكاية الأولى إضغط هنا

2013/11/21

43 عاما من الإنجازات والرقي

43 عاما من الإنجازات والرقي
 
 
ها هي سلطنتنا الحبيبة تحتفي بذكرى العيد الوطني الـ43 المجيد، وها نحن أبناء عمان نقدم كل التحايا والامتنان والتقدير لباني نهضة عمان وقائدها المفدى صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه بهذه المناسبة الخالدة. 43 عاما كانت كفيلة برفع اسم السلطنة عاليا خفاقا بين دول العالم، حتى أصبحنا نفتخر بانتمائنا إلى هذه الأرض المعطاء، بل ويتمنى الكثيرون لو أنهم كانوا من أبناء عمان.
 
أيام نستعيد فيها ذكرى الليالي الماضية، وكيف كانت سلطنتنا الغالية لا تُذكر بين الدول، بينما الآن أصبحت علما بين البلاد الأخرى، لها ثقلها الاقليمي والدولي. نتذكر كيف عاش أباؤنا وأجدادنا وكافحوا جنبا إلى جنب مع قائد مسيرة عمان حفظه الله، وكيف عانوا الأمرين حتى خرجت لنا أجيال متعلمة واعية قادرة على الاستمرار في بناء هذا الوطن وتكملة المسيرة مع قائدنا المفدى أعزه الله.
ولست أنسى تلك الحكايا من أجدادنا، عن صعوبة العيش في الماضي الغابر، وصعوبة إيجاد لقمة العيش وصعوبة إيجاد المأوى والمسكن، ولكن بالعمل الجاد تحت نظر صاحب الجلالة وتوجيهاته السامية أصبحنا نعيش الآن في رغدٍ من العيش، منعمين ومرفهين، نأكل من خيرات هذه الأرض الطيبة.
 
43 عاما، كانت كفيلة بأن تجعل من أرض عمان معلما سياحيا بارزا، يقصده الزوار والسياح من كل حدب ومكان، مع توجيهات صاحب الجلالة بالاهتمام بالسياحة وتطويرها لتكون أحد مصادر الدخل الوطني لعمان، وليستفيد شعب عمان من امكانيات هذه الأرض ومصادرها.
 
4 عقود بل تزيد، جعلت أبناء عمان يتعلمون كل أصناف العلوم ويمارسونها، فها هي جامعة السلطان قابوس تحتفل في هذه الأيام بتخريج الدفعة الـ24 من حملة البكالورويس والـ8 من حملة الماجستير والـ4 من حملة الدكتوراه، حتى قال صاحب الجلالة حفظه الله تعالى "نحن نفاخر بهذه الجامعة، ونفاخر بكم أيضا"، وحق لنا أن نفتخر بجلالته أمام الملأ لنعلنها مدوية نحن تلامذة هذا القائد المفدى.
 
في الختام، أبارك لصاحب الجلالة حفظه الله ورعاه العيد 43 المجيد، وأبارك لأبناء عمان الأوفياء هذا العيد الوطني، وأسأل الله تعالى أن يعيده علينا وصاحب الجلالة أعزه الله بكل خير وعافية والشعب العماني في مزيد من الخير والنماء.
 
 
رضا بن عيسى اللواتي
مسقط - سلطنة عمان

2013/11/16

ولزينب رب يحميها

ولزينب رب يحميها


تلك الليلة، كانت أصعب الليالي على قلب مولاتي العقيلة زينب عليها السلام، ليت شعري ما كان شعورها وما الذي كانت تعانيه، فحين يفقد المرء شخصاً واحداً من أحب الناس إلى قلبه فإنه يعاني كثيرا، ولنا في قصة يعقوب النبي عليه السلام حينما فقد ولده العزيز يوسف عليه السلام وهو يعلم أنه حي يرزق لعبرة لأولي الألباب. فكيف بقلب إمرأة فقدت في ساعة واحدة 17 رجلاً من أهل بيتها وأعز قرابتها، نجوم الأرض من آل عبدالمطلب، هذه المرأة هي زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السلام، وحق للشاعر أن يقول "بأبي التي ورثت مصائب أمها ** فغدت تقابلها بصبر أبيها".

هي ليلة الحادي عشر من المحرم، التي أصبحت فيها مولاتنا العقيلة زينب الحامي والكفيل لليتامى والأرامل، من بعد أخيها سيد الشهداء عليه السلام حيث أنها كانت تنظم شؤونهم وترعاهم. ورغم كل ذلك، ورغم كل المصائب التي مرت عليها، لم تفقد صبرها وتجلدها، لكنها صلت ذلك اليوم صلاة الليل من جلوس. وفي اليوم الحادي عشر من المحرم كانت الرحلة الشاقة والعسيرة على قلب مولاتنا العقيلة زينب عليها السلام، حادي الظعن في تلك المسيرة هو الشمر عليه لعنة الله ويحوط موكب السبايا جيوش بني أمية. قلوبهم قاسية، وأيما صوت تصدره الهاشميات فالضرب المبرح هو ردة فعل أبناء الطلقاء.

أما رأس الحسين عليه السلام الذي نصبه أعداء الدين والإنسانية أمام موكب سبايا آل محمد عليهم السلام، وأمام عيني مولاتنا العقيلة زينب عليها السلام، كان ذلك تعذيبا نفسيا للأسرة الهاشمية العلوية، وحين كانت النساء يبكين لمنظر الرأس المنصوب على رمح طويل، تجلدت وصبرت بنت أمير المؤمنين ونفذت وصية أخيها الحسين عليه السلام حين أمرها بالصبر وعدم اظهار الأسى والحزن، بل وإكمال مسيرته عليه السلام.

وتجلى صبرها وعزيمتها في ثلاثة مواطن، في الكوفة، أمام ذلك الجمع الهائل من الناس، وبين يدي طاغية الكوفة والبصرة عبيدالله بن زياد، وعند ابن آكلة الأكباد في دمشق الشام. هناك ألقت الحراء زينب عليها السلام خطباً عظيمة من دون خوف أو انكسار، فاقشعرت لها أبدان الحاضرين وسقطت قطرات الدموع من أعينهم، وهم ممن امتلأت قلوبهم حقدا على آل بيت النبوة والرسالة، حتى قيل أنها قد أفرغت عن لسان أبيها أمير المؤمنين عليه السلام. لعمري، إن المصائب التي رأتها زينب عليها السلام كانت كفيلة بأن تهد الجبال الرواسي، ولكن لزينب رب يحميها.

وتخرج زينب عليها السلام من الشام مرفوعة الرأس منتصرة على أبناء الطلقاء، فتشاء القدرة الإلهية أن تعود مولاتنا زينب عليه السلام إلى هذه الأرض الظالم أهلها، بعد عامين مريضة ناحلة الجسم فيوارى بدنها في دمشق الشام. وهناك في أرض بني أمية ترتفع قبة مولاتنا العقيلة زينب الزاهرة لتناطح السحاب، ويزورها أفواج البشر في كل عام، وفي كل آن، يتوسلون عند ضريحها الطاهر، فكان ذلك عربونا لوفاءها وهدية من رب السماء لهذه المرأة الطاهرة التي ضحت بكل ما تملك من أجل إعلاء راية الحق وراية جدها رسول الله صلى الله عليه واله، ونصرة لأخيها الحسين عليه السلام.

ويأبى الطلقاء وأبناء الطلقاء إلا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فيأتون من كل حدب وناحية، لإسقاط راية العقيلة زينب، وهدم تلك القبة الشامخة، وإيقاف الأفواج البشرية الوافدة إلى تلك البقعة من الأرض التي تشرفت بالسيدة زينب عليها السلام في كل عام. ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون والمنافقون، فهاهي قبة زينب عليها السلام تعلو يوما بعد يوم، ورجال الله أقسموا "أن لن تسبى زينب مرتين"، وحقا لزينب رب يحميها.




رضا بن عيسى اللواتي

مسقط – سلطنة عمان

2013/11/12

#ويبقى_الحسين (3) | كذب الموت فالحسين مخلد

#ويبقى_الحسين (3) | كذب الموت فالحسين مخلد
#ويبقى_الحسين (3) | كذب الموت فالحسين مخلد (1)

كذب الموت فالحسين مخلد ** كلما أخلق الزمان تجدد


هكذا صدح أحد الشعراء الذين عرفوا وفهموا خلود ثورة وملحمة سيد الشهداء مولانا أبو عبدالله الحسين عليه السلام، وبهذا البيت كانت بداية قصيدته. نعم، كذب الموت، فالحسين عليه السلام لم يمت، ولم يفارق الدنيا، بل بعروج روحه المقدسة إلى خالقها عاش الحسين عليه السلام، وبصعود روحه الشريفة إلى جوار روح جده وأمه وأبيه وأخيه صلوات والله وسلامه عليهم أمتد ذكر الحسين عليه السلام وأصبح بهذا خالدا أبد الدهر. ولما رمى الحسين عليه السلام بدمه الشريف يوم العاشر من المحرم كان البقاء السرمدي والخلود الأبدي لهذا الإنسان المقدس الذي قال يوم العاشر من المحرم: "يا رب إن كان هذا يرضيك، فخذ حتى ترضى".

إن هذا الخلود والبقاء لثورة الحسين (ع) قد حير الكتاب والمفكرين واصحاب الثورات الكبيرة، فلو عدنا إلى الوراء لرأينا أن الثورة الوحيدة التي لا يزال العالم كله يتذكرها في كل عام هي ثورة الإمام الحسين (ع)، على الرغم من أن عددا كبيرا من الثورات قد قامت وانتهت بعد فترة وجيزة. فنرى ثورة المختار الثقفي للثأر من قتلة سيد الشهداء علبه السلام، وثورة زيد الشهيد، وثورة الحسين بن علي صاحب فخ، وثورة العباسيين ضد الحكم الأموي والتي رفعت شعار "الرضا من آل محمد". أما في العصر الحديث فنرى ثورة نابليون بونابرت، ثورة غاندي في الهند ضد الحكم البريطاني، ثورة مصر في عام 1953، والثورة الإسلامية في إيران وغيرها. كل هذه الثورات، بل وأكثر مما ذكرته، أفل نجمها، وأنطفأ وهجها بعد سنوات قليلة من انتهاءها، إلا ثورة الحسين عليه السلام فأن نجمها يزداد سطوعا كل عام، ويزداد بل ويتضاعف عدد الملتحقين بركبها كل عام.

فما السر اذا؟، ولماذا هذا الخلود والبقاء وقد مر على هذا الواقعة زهاء 1400 عام؟ ولماذا يتوقف الناس عن اتباع الثورات ويتوقفون عن التفاعل معها إلا ثورة الحسين عليه السلام، فإن إسمه رغم كل الحروب التي جرت لتهميشه وكل الأفكار المضادة التي نشأت لمحاربة فكره، فإن اسمه وفكره ومنهجه لا يزداد إلا علوا وشموخا. إن لهذا الشموخ والرفعة والمكانة الخاصة لثورة سيد الشهداء عليه السلام أسباب وعوامل عديدة ويمكن أن نختصرها في ثلاثة عوامل رئيسية سوف نتحدث عنها تباعا.

العامل الأول الذي ساهم في إبقاء النهضة الحسينية إلى يومنا هذا، هو الهدف من هذه النهضة، حيث يظهر لنا جليا أن خروج الإمام الحسين عليه السلام ضد حكم بني أمية الظالم لم يكن من أجل المنافسة على حكم البلاد الإسلامية أو من أجل الحصول على المال أو الجاه أو غيرها من فضول العيش، بل كان من أجل إعادة النظام إلى حياة الأمة الإسلامية وإعادة الشريعة الإسلامية إلى ما كانت عليه في أيام جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأبيه أمير المؤمنين عليه السلام. وفي هذا يقول الإمام الحسين عليه السلام: "ألّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك" ] بحار الأنوار ج 97 ص 80[.

وبتنا نرى أن نظام بني أمية قد غير الكثير من معالم الإسلام وضربت بأحكامه عرض الحائط، فقد جعلوا الحكم والخلافة ملكا عضوضا يتناقلونها كسروية هرقلية، وساهمت في قتل العديد من المسلمين، واختلقت العديد من الروايات على لسان النبي صلى الله عليه واله وسلم، وأعطت سياستها هالة من القدسية وربطتها بالشريعة المقدسة، فحرمت الخروج على الحاكم الظالم حيث رووا عن النبي صلى الله عليه واله وسلم :"يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس؛ قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع". ]صحيح مسلم: ج 3 ص 1481 ح 1854 و ص 1476 ح 1847[. وغيرها من الروايات والاحاديث التي أعطت لحكم بني أمية هالة من القداسة.

ولهذا السبب كان خروج الإمام الحسين عليه السلام في تلك الثلة المؤمنة لكي يعي الجميع أن حكم بني أمية ما هو إلا حكم ظالم لا يمت إلى الإسلام بصلة، وأن على جميع الأمة الإسلامية أن تسعى سعيا حثيثا لمحاربة هذه الطغمة الظالمة التي أرادت نسف قيم ومعالم الإسلام المحمدي الأصيل.

العنصر والعامل الثاني من عناصر وعوامل خلود النهضة الحسينية المقدسة، هو الطبيعة المأساوية لثورة الإمام الحسين عليه السلام. فقد كان مقتل الإمام الحسين عليه السلام عبارة عن فاجعة كبيرة بحدث ذاتها، في جميع فصولها، منذ انطلاق الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكة، وثم انطلاقه من مكة إلى كربلاء. وكانت الفاجعة العظمى يوم العاشر من المحرم، بل واستمرت تلك الفجائع والمصائب إلى يوم الأربعين وعودة سبايا آل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى أرض كربلاء.

وقد أشار سماحة الشيخ الدكتور عبدالله اليوسف في إحدى محاضراته إلى هذا المعنى فيقول: "قد كانت الثورة من بدايتها حتى نهايتها فاجعة مدوية تثير الألم والأسى والحزن العميق في القلوب والنفوس. فعندما نقرأ ما حدث للإمام الحسين  عليه السلام، وأهل بيته، وأنصاره وأصحابه من مآسٍ محزنة، ونهايات مؤلمة جعلها ذات جاذبية خارقة على المستوى الإنساني العام فضلاً عن بعدها الديني. فكل من يطلع على أحداث كربلاء -وإن لم يكن مسلماً- يتفاعل ويتضامن إنسانياً مع مظلومية الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الذين استشهدوا بين يديه، ويستنكر ما تعرضت له النساء والأطفال من التشريد والأسر والأذى النفسي والجسدي بما يدمي القلوب ويثير الأسى والألم العميق". (1)

ولهذا فإننا نرى النبي صلى الله عليه واله وسلم يؤكد على مأساوية ثورة الإمام الحسين عليه السلام فيقول صلى الله عليه واله وسلم: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً". ]مستدرك الوسائل ج 10 ص 312[. وروري عن الإمام زين العابدين عليه السلام تأكيدا على هذا المعنى وهو قوله عليه السلام: "ولا يوم كيوم الحسين عليه السلام ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنّهم من هذه الأمّة كلّ يتقرّب إلى الله عزَّ وجلّ بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً". ] أمالي الصدوق, 547[.
          العامل الثالث والأخير هو إعلام أهل البيت عليهم السلام، بداية من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وتأكيداته على مصاب الإمام الحسين عليه السلام، وانتهاء بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

حيث أقام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم العزاء على حفيده الحسين عليه السلام قبل استشهاده بنصف قرن، وقد تحدثت الروايات الكثيرة عن هذا الأمر. وسوف نستعرض واحدة من هذه الروايات التي ذُكرت في كتب بعض فرق المسلمين حيث ورد عن عائشة أنّها قالت: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أصحابه، والتربة في يده، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، وحذيفة، وعمار، وأبو ذر، وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله ؟! فقال: "أخبرني جبرائيل، أنّ ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطفّ، وجاءني بهذه التربة، فأخبرني أنّ فيها مضجعه". ]مجمع الزوائد 9 / 188 ، المعجم الكبير 3 / 107[.

ثم جاء أمير المؤمنين عليه السلام وتحدث عن مصاب الإمام الحسين عليه السلام عند مروره بأرض كربلاء في طريقه إلى صفين حين قال: ".. ومصارع عشّاق شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم, ولا يلحقهم من بعدهم".] بحار الأنوار ج 41 ص 295[. ولا أنسى سيدتي ومولاتي زينب عليها السلام حينما تحدثت أمام أهل الكوفة عن خذلانهم وتقصيرهم في نصرة أبي عبدالله الحسين عليه السلام، وتجلدت ونطقت بلسان أمير المؤمنين عليه السلام في مجلس عبيدالله بن زياد ومجلس يزيد بن معاوية في الشام. ثم جاء الدور على أئمة أهل البيت عليه السلام، فهاهو الإمام زين العابدين عليه السلام يتحدث عن أهل بيت النبوة والرسالة أمام جمهور المسلمين في أرض الشام، وعند عودته إلى المدينة لا يأكل ولا يشرب حتى يخلط ذلك الطعام والشراب بدموع عينه.

وهكذا تحدث الأئمة عليهم السلام وأصدروا البيانات والأوامر والتشريعات لإقامة مواكب العزاء ومجالس العزاء على الإمام الحسين عليه السلام، وكتابة الشعر عن واقعة الطف، وفي الأخير زيارة الإمام الحسين عليه السلام ولنا في ذلك روايات كثيرة دلت على ذلك، وأبرزها قول الإمام الصادق عليه السلام: "من قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتاً في الجنة". ]وسائل الشيعة 467:10[. وقول الإمام الرضا عليه السلام لدعبل الخزاعي: "يا دعبل، إرثِ الحسين عليه السلام فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعت". ]جامع أحاديث الشيعة 567:12[.

وأما في الحث على البكاء فقد قال الإمام الرضا عليه السلام للريان بن شبيب: "يَا ابْنَ شَبِيبٍ: إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لِشَيْ‏ءٍ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ( عليه السَّلام )، فَإِنَّهُ ذُبِحَ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ". ]وسائل الشيعة: 14 / 502[. وقول الإمام الصادق عليه السلام: "من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه دمعٌ مثل جناح بعوضة ، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر". ]تفسير القمي ص616[. أما زيارة الإمام الحسين عليه السلام، فلها من الثواب الجزيل، وقد حث عليها أهل البيت عليهم السلام كثيرا، فيقول الإمام الصادق عليه السلام: "من أتى قبر الحسين عليه السلام تشوقاً إليه كتبه الله من الآمنين يوم القيامة، وأعطى كتابه بيمينه، وكان تحت لواء الحسين ابن علي –ع– حتى يدخل الجنة فيسكنه في درجته إن الله سميع عليم". ]وسائل الشيعة ج ١٤ ص ٤٩٧[.

ولذلك فإن العناصر الثلاثة أعلاه قد ساهمت كثيرا في إبقاء الثورة الحسينية المقدسة باقية خفاقة إلى يومنا هذا على عكس بقية الثورات على مر التاريخ، ولا تزال هذه الجموع الغفيرة من الموالين لأهل البيت عليهم السلام تُقيم مآتم العزاء والنياحة على مصاب أبي عبدالله الحسين عليه السلام، ولا تزال الملايين تزحف إلى أرض كربلاء لزيارة سيد الشهداء عليه السلام، وستبقى كذلك إلى انقضاء الساعة.



رضا بن عيسى اللواتي
مسقط – سلطنة عمان
نشرت في مدونة مدونون جـ1 و مدونون جـ2
نشرت ضمن حملة #ويبقى_الحسين

2013/11/02

ويبقى الحسين (ع) علما لكل جيل

ويبقى الحسين (ع) علما لكل جيل

ويبقى الحسين (ع) علما لكل جيل

“يا حسين”، كلمة كانت أمي ترددها على مسامعي دائما، في كل وقت، كانت فرحة أم حزينة، وكانت تقول لي إن أردت الفلاح والفوز فقل “يا حسين” دائما. لم أفهم سر هذه العلاقة بين أمي والإمام الحسين عليه السلام، ولم أعي سر هذا النداء، والجدير بالذكر أن نداء أمي للإمام الحسين عليه السلام كان متبوعا دائما بالبكاء والنحيب.
والدي أيضا، كان يرددها على مسامعي في كل مرة، وكان يقول لي “يا حسين” هي المفتاح لكل باب مغلق، فالحسين عليه السلام سر محمد وعلي صلوات الله وسلامه عليهما والهما فكما يقال “الفتى سر أبيه.
كبرت، وكبرت معي كلمة “يا حسين” حتى أصبحت أرددها دائما، في كل محفل، وفي كل وقت وآن. أصبحت لهذه الكلمة لذة خاصة، وعشق خاص، كما أصبحت لها معانٍ كثيرة وعذوبة مختلفة. عندما ننطق باسم الحسين عليه السلام نتذكر معنى الإصرار ومعنى التحدي ومعنى مواجهة الظلم، ومعنى الإباء وكل الصفات النبيلة، ومع ذكر الحسين عليه السلام تنهمر الدموع ويتفطر القلب حزنا والماً.
كان أبي وأمي يحدثانني عن الحكايا والمعجزات التي حصلت ولا تزال تحصل عند الضريح الطاهر لسيد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السلام. في البداية لم أصدق ذلك، وكنت أعتقد أنها من أساطير الأولين، ليس لعدم إيماني بأهل البيت عليهم السلام، بل لصغر سني، وعدم معرفتي بحقائق الأمور. ولكن عندما كبرت وشاهدت عجائب الحسين عليه السلام بأم العين، همت عشقا في الحسين عليه السلام وازداد إيماني به وبأسراره عليه السلام.
وعندئذ قال لي والداي هذا سر “يا حسين” وسيبقى الحسين عليه السلام راية ومنبرا وعلما لكل جيل وزمان ومكان، وذلك مصداقا لقول السيدة زينب سلام الله عليها ليزيد بن معاوية: “فوالله لا تمحو ذكرنا“.
وما قولها للإمام السجاد عليهما السلام عند الخروج من كربلاء إلا إيمانا وتصديقا بأن الحسين عليه السلام باقٍ إلى أبد الآبدين حين قالت له: “مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي و أبي و إخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض و هم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره و لا يُمحي رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر و أشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا علواً.” [أدب الطف ـ الجزء الاول 242].


رضا بن عيسى اللواتي
مسقط - سلطنة عمان
2/11/2013
نشرت في مدونة مدونون

2013/10/31

فائدة من يوم المباهلة

فائدة من يوم المباهلة



لو أردنا أن نستعرض التاريخ الإسلامي لبحث قضية خلافة النبي صلى الله عليه واله وسلم لوجدنا أنها بدأت منذ أن قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله وسلم: “وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ” [الشعراء:214]، حيث جمع النبي صلى الله عليه واله وسلم من بني هاشم في دار عمه أبو طالب عليه السلام وكان ما يسمى في تاريخ المسلمين بـ”يوم الدار”. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام حديث يوم الدار: “لما نزلت ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ - ورهطك المخلصين – دعا رسول الله صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا فقال أيكم يكون أخي ووصيي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي ؟ فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا كلهم يأبى ذلك حتى أتى علي فقلت أنا يا رسول الله، فقال يا بني عبد المطلب هذا أخي ووارثي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي، فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام“. [علل الشرائع(الشيخ الصدوق) الجزء 1: ص170].
ومن بعد ذلك اتخذ النبي صلى الله عليه واله وسلم ابن عمه علي إبن أبي طالب عليه السلام وزيرا له، وليس من المعقول أن يتخذ النبي صلى الله عليه واله وسلم شابا صغيرا خليفة له من بعده إلا إذا كان ذلك بأمر من الله سبحانه وتعالى وهو القائل عن نبيه صلى الله عليه واله وسلم: “وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” [سورة النجم: 3-4]. وقد تواتر الحديث عن “يوم الدار” في جميع كتب المسلمين بل وأجمعوا على صحة هذا الحديث وهذه الواقعة فقد رويت في [مسند أحمد ١/١١١ رقم ٨٨٥]، [سنن النسائي ٦/٢٤٨]، [مجمع الزوائد ٩ / ١١٣] من مصادر علماء العامة واتفقوا على صحتها وتحسين سندها ومتنها.
ومن هنا يتضح جليا أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قد أهتم كل الاهتمام بمستقبل دعوته المباركة منذ نعومة أظفارها ولم يتركها عرضة للنهب والسلب. ثم تأتي الأحداث والوقائع لتبين مدى اهتمام النبي صلى الله عليه واله وسلم بمستقبل هذه الأمة الفتية ومستقبل الدين الجديد، حيث لا يمكن أن يلي أمور المسلمين من لا يصلح لها أو من لا يعي أهمية استمرار خط الرسالة المحمدية كما هي. ومن هنا جاء تنصيب الإمام علي عليه السلام خليفة للنبي صلى الله عليه واله وسلم، كيف لا وهو ربيبه صلى الله عليه واله وسلم ومن كان يتبعه “اتباع الفصيل أثرأمه“. فهو الأجدر والأفضل في خلافة النبي صلى الله عليه واله وسلم لأنه أدرى بالدعوة وأعلم بالأمة فكما يقال “أهل مكة أدرى بشعابها” وعلي أبن أبي طالب أدرى بالإسلام من غيره وممن هو حديث عهد بالإسلام أو بمن لم يشهد مع النبي صلى الله عليه واله وسلم جميع مواقفه وشؤونه باعتراف من بعض من كان مع النبي صلى الله عليه واله وسلم في ذلك الوقت.
واستمرت تأكيدات النبي صلى الله عليه واله وسلم في تنصيب ابن عمه عليا عليه السلام خليفة على المسلمين من بعده، بل وتأكد ذلك في يوم المباهلة حينما كانت الحادثة مع نصارى نجران، وجاء النبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم بفاطمة والحسن والحسين والحسين عليه السلام، وجاء بعلي ابن أبي طالب عليه السلام ممثلا نفس النبي صلى الله عليه واله وسلم الشريفة وكان نزول هذه الأية: “فمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ” [ال عمران:61] بمثابة التأكيد المطلق على أن عليا عليه السلام هو الوحيد الممثل للنبي صلى الله عليه واله وسلم في كل مشهد وموقف وهو الوحيد الذي يمثل الشخصية المتكاملة للنبي صلى الله عليه واله وسلم فيستطيع أن يحل محله وأن يقود الأمة الإسلامية إلى بر الأمان بعد وفاته صلى الله عليه واله وسلم.


رضا بن عيسى اللواتي
منشور في مدونة مدونون
30/10/2013

2013/10/19

في عيد الغدير لنا وقفات ..

في عيد الغدير لنا وقفات ..


في عيد الغدير لنا وقفات ..


عيد الله الأكبر، بل خير أيام الأمة الإسلامية هو يوم عيد الغدير، فيه أكمل الله تعالى دينه، وأتمم الله تعالى نعمته على عباده، ورضي لهم بهذا الدين الإسلامي شريعة ومنهاجا إلى يوم القيامة. كيف لا يحدث ذلك، وفيه نصَب الرسول صلى الله عليه واله وسلم وزيره علي ابن أبي طالب خليفة للمسلمين من بعده. إن هذا اليوم، هو يوم تجديد البيعة لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، وهو يوم إعلان والولاء التام المطلق له صلوات الله وسلامه عليه ولأبناءه الأئمة الهداة من بعده.
إن لعيد الغدير خصائص كبيرة في التاريخ الإسلامي، فأولى الخصوصيات هي وقت هذه الواقعة، فقد كانت في آخر أيام حياة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وهذا الأمر يحمل دلالة كبيرة، حيث أنها أعلنت للناس أن الإمام علي ابن أبي طالب هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم لا محالة، فقد نعى النبي عليه واله الصلاة والسلام نفسه إلى الناس، كما أن الله سبحانه وتعالى قد أعلن عن ختم الدين الإسلامي بعد حادثة الغدير، ويتبين أن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام كانت خاتمة الرسالة المحمدية.
الخصوصية الثانية التي كانت ليوم الغدير الأغر هي الحضور الكبير لهذه المناسبة، حيث لم يشهد التاريخ في زمن النبي صلى الله عليه واله وسلم حضور أكثر من 120 الفا من المسلمين في محفل واحد، إلا في يوم الغدير، حيث شهد الحادثة هذا العدد الجم كما ورد في بعض الروايات. وهنا يأتي دور الحاضرين في نشر هذه الواقعة بين أقوامهم وفي بلادهم، وهذا الذي حدث بعد رجوع كل أبناء عشيرة إلى عشيرتهم.
الخصوصية الثالثة والأهم لهذه الواقعة هي تجلي معنى الولاء لدى الأمة الإسلامية، فقد قرن النبي صلى الله عليه واله وسلم طاعته بطاعة الإمام علي عليه السلام، وقرن إمامته بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام، حين سأل الحاضرين: “ألست أولى بكم من أنفسكم” وحين أجابوه بالتلبية قال لهم – بأبي هو وأمي: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه”. ثم دعا بدعاءه المشهور “اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله”.
وهذا الأمر لهو صُلب العقيدة بل أسها وأساسها لأن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه قُبيل إعلان الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ” [المائدة: 67]. ولما أن بلغ النبي صلى الله عليه واله وسلم ذلك جاءت الآية الكريمة معلنة إتمام الدين وذلك بولادية أمير المؤمنين عليه السلام حين قال الله تعالى:“الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا” [المائدة:3].
إن مثل هذه الخصوصيات العظيمة التي كانت في يوم إعلان الإمامة للإمام علي عليه السلام، في أكبر محفل عرفه المسلمون في حياة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يتسحق منا أن نقف عليه بعض الوقفات لنربي أنفسنا وبالتالي أبناءنا والأجيال اللاحقة ونتعلم من هذه الحادثة التاريخية العظيمة دروسا وعبراً تكون منهاجا لنا في حياتنا، ولتكون لنا نورا نهتدي به في طريقنا نحو الله سبحانه وتعالى.
الوقفة الأولى والأهم هي اقتران رضى الله سبحانه وتعالى برضى أهل البيت عليهم السلام، وطاعة الله سبحانه وتعالى لا تكون إلا بطاعة أهل البيت عليهم السلام، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ” [النساء:59]. والنبي صلى الله عليه واله وسلم يقول في حديث الغدير: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه” [ابن المغازلي : المناقب - ص 29 - إلى ص 36]. وبذلك يكون أمير المؤمنين عليه السلام ولي أمرنا المفروض علينا طاعته، والسير خلف نهجه، وهنا استحضر كلاما للنبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم مع عمار بن ياسر حين يقول له: “يا عمار إذا رأيت عليا سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فاسلك مع علي ودع الناس ، إنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من الهدى” [بحار الأنوار:39].
التعبئة الفكرية والعقائدية والثقافية هي الوقفة الثانية لنا حين الحديث عن واقعة غدير خم، فإن الملاحظ في سيرة النبي صلى الله عليه واله وسلم هو أنه قام بتعبئة المسلمين فكريا وعقائديا وثقافيا عن فضائل أمير المؤمنين عليه السلام وعن حقوقه وعن منزلته الرفيعة بين المسلمين وله في ذلك أحاديث جمة، فمنها حديث الدار والذي ورد ذكره في عديد من مصادر المسلمين [السنن الكبرى للنسائي - ج5 ص125 ( 8451 ) 83]، أو حديث المنزلة [صحيح البخاري 5 : 89 / 202]، أو حديث الطائر المشوي[صحيح الترمذي ج 5 ص 595 ح 3721] وغيرها من الأحاديث الدالة على ما ذكرناه سابقا، وقد أشرنا في هذه العجالة إلى بعض من مصادر أخواننا من أهل السنة ولم نذكر مصادرنا لأنها زاخرة بها وبأمثالها.
كان النبي صلى الله عليه واله وسلم يستغل كل موقف أو حادثة لكي يبين للناس فضائل الإمام علي عليه السلام، وقد أُخر إعلان خلافته حتى يكون المسلمون مستعدون نفسيا وعقائديا وفكريا لمثل هذا الأمر العظيم الذي به تمام الدين. ولذلك علينا نحن أيضا أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن نتعبأ فكريا وعقائديا وثقافيا وأن نكون أهلا لحمل راية أهل البيت عليهم السلام ونشرها بين الناس، وأن نكون من أهل العلوم كلها، فقد كان أصحاب الصادقين عليهما السلام هم أصحاب العلوم كلها، وقد أسس الإمام جعفر بن محمد الصادق مدرسة علمية جامعة حتى كان يقول جميعهم “حدثني جعفر بن محمد”.
الوقفة الثالثة والأخيرة في حديثنا عن واقعة الغدير هي أن طريق الحق صعب ووعر، ولسلوكه والبقاء عليه يجب علينا أن نكافح ونتعامل مع المعطيات بكل جدية، فهذا رسول الله صلى الله عليه قد تخوف من الفكر المضاد – أي الفكر المناوئ للإمام علي عليه السلام -، فتردد عن إعلان خلافة أمير المؤمنين حتى لا يُقال حابى ابن عمه كما وردت في بعض المصادر، ويمكن القول “إنَّ التخوُّف من خطر الفكر المضادِّ هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن ينسجم مع قوله تعالى في الآية: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِيْ الْقَوْمَ الْكَافِرِيْنَ)؛ إنَّ الآية مدنيَّة ومن أواخر ما نزل من القُرآن، ولم يكن المنافقون واليهود في تلك الفترة الزمانيَّة يُمثِّلون أيَّ تهديد من قبيل القمع الجسديِّ حتَّى يصحَّ افتراضُ كون النبيِّ يخشاهم على نفسه. بينما لا مانع من افتراض كون النبيِّ كان يخشى سمومهم الفكرية الَّتي كان بالإمكان أن يبثُّوها بين المسلمين لعدم المانع من القول ببقاء قدرتهم على النفوذ الفكريِّ حتَّى بعد انحلالهم كقوَّة يُمكنها ممارسةُ الإرهاب الجسديِّ”. (1)
ومن هنا، فإن على الإنسان الذي يريد سلوك طريق الحق أن يواجه جميع الصعوبات التي تأتي أمامه، بل يقف أمامها كالجبل الراسخ في سبيل إرساء نور الحق وإظهاره للجميع. ولنا في رشيد الهجري وميثم التمار خير أمثلة على صبرهم أمام قول كلمة الحق، وكلنا نعرف ما الذي فعلته عصابة بني أمية فيهما وكيف نكلت بهم، كما لنا في صبر السيدة زينب عليهم السلام مثال واضح حتى قال الشاعر: “بأبي التي ورثت مصائب أمها ** فغدت تقابلها بصبر أبيها”.
وفي الختام، أتوجه بخالص التهنئة إلى صاحب العصر والزمان في عيد الولاية، ونعلن فيه تجديد بيعتنا لأمير المؤمنين عليه السلام ولحفيده صاحب العصر والزمان، كما أتوجه بالتهنئة إلى مراجعنا العظام وعلماءنا الأعلام، وجميع المؤمنين والمؤمنات بهذه المناسبة العطرة وهذا العيد الأعظم، أعاده الله علينا وعلى الأمة الإسلامية باليمن والخير والبركات إنه سميع مجيب.



رضا بن عيسى اللواتي
مسقط - سلطنة عمان

2013/10/18

ويبقى الحسين .. جمرة مشتعلة

ويبقى الحسين .. جمرة مشتعلة




لم يتبق على بداية شهر الحزن والأسى إلا أيام معدودة، فها هو شهر محرم الحرام قد أقبل، حاملا معه نداءً عاشوريا صادحا "ومثلي لا يبايع مثله". هذا النداء كان قُبيل انطلاق الثورة الحسينية، أعلنها الحسين عليه السلام إعلانا مدويا أمام الجميع، أن يزيد بن معاوية لا يمثل قيم الإسلام، ولا يرقى إليها أصلا، وأنه - بأبي هو وأمي - أشرف وأجل من أن يبايع يزيد ذلك الفاجر الفاسق. نداء آخر كان للحسين عليه السلام أيضا ولكنه كان في أحلك الظروف وأشدها على الحسين بن علي سلام الله عليه، كان هذا النداء في يوم عاشوراء حينما أحاطت جيوش بني أمية بأهل بيت النبوة والطهارة، أي حينما لم يتبق على أسر زينب وأخواتها إلا القليل، أطلق قائد الجيش العلوي نداءه الصارخ "هيهات منا الذلة".

إن صدى هذه الصيحات لا يزال مستمرا، ففي كل أرض هناك كربلاء ثانية، وفي كل يوم هناك عاشوراء أخرى تتحدى جيوش بني أمية، بصلابة علوية، ملبين دعوة الإمام الشهيد عليه السلام في نصرة الحق، وقد صدق من قال "كل أرض كربلاء، كل يوم عاشوراء".

الثورة الحسينية المجيدة، وطريقة استشهاد هذا الإمام الغريب، بل وقبل كل ذلك هدفه النبيل الذي خرج من أجله سلام الله عليه، وهو إعادة الإسلام إلى مساره الصريح، وإعادة الأمة الإسلامية إلى سيرتها الأولى كما كانت على عهد جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. الإمام الحسين عليه السلام، لم يخرج من أجل مال أو دنيا يريدها، ولم يخرج "أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً" ولكنه خرج "لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ". فكان من الصعب على البعض أن يتقبل فكرة خروج الإمام الحسين على الظلم، فالفترة التي سبقت حكم يزيد كانت من أشد الفترات على المسلمين ولكن لم يخرج أحد على ملك معاوية عدا الإمام الحسن عليه السلام ومن بعدها صالح معاوية على شروط وضعها معاوية بعد ذلك تحت رجليه. ولذلك عقب الإمام عليه السلام كلامه بقوله: "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين". كل ذلك جعل من الحسين بن علي عليه السلام منارا وعلما ونورا يهتدي به كل من يريد الحرية، وكل من يريد تحقيق العدالة على ظهر هذا الكوكب.

بخروج سيد الشهداء على حكم الطاغية يزيد بن معاوية، فإنه قد أعطى لكل الشرفاء في العالم طريقة وأسلوبا إسلاميا بحتا للثورة ولنيل الشرف والعزة، ولم يكن قوله لبني هاشم: "من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يبلغ الفتح" ]كامل الزيارات: 75 باب 24 حديث رقم 15] إلا دليلا على أن الحرية والشرف والكرامة لا تكون إلا بالشهادة، والفتح المبين لا يكون إلا بالتضحية بالغالي والنفيس تطبيقا لقول الله تبارك وتعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"]آل عمران:92].

لقد ربى أئمة أهل البيت عليهم السلام شيعتهم على استذكار مصائب الطف وما جرى على أهل بيت النبوة والرسالة، في مجالس يتعلمون فيها أمور الدين والدنيا، ويبكون فيها على الحسين بن علي وعلى أهل بيته. إن هذه المجالس الحسينية ما هي إلا مجالس تنزل عليها الرحمة، مجالس يزداد فيها شيعة محمد وآل محمد إيمانا ويقينا، مجالس هدفها أن يستمد الحاضرون من الحسين عليه السلام إيمانه، صبره، عزيمته وإصراره، يستلهمون من زينب عليها السلام معنى الصبر وتحمل الأذى، ومن العباس بن علي معنى الإيثار ومعنى الأخوة ومعنى طاعة أولي الأمر. ويتعرفون على معنى الانصياع لأمر القائد من حبيب بن مظاهر وزهير بن القين وغيرهم من أصحاب الحسين عليه السلام.

إن شعائر الحسين عليه السلام من أبرز مصاديق شعائر الله جل جلاله، لأن هدف الحسين عليه السلام من كل ما جرى كان رضى الله تعالى وإعلاء كلمته، ومن يجعل رضى الله نصب عينيه، فإن الله سبحانه وتعالى يعظمه، ويخلد ذكره إلى يوم القيامة، ولهذا فإن الحسين عليه السلام سيبقى كالجمرة المشتعلة في قلوب شيعته ومحبيه كما قال جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا" [جامع احاديث الشيعة، ج 12، ص556]. 



رضا بن عيسى اللواتي
مسقط – سلطنة عمان