2014/06/29

نافذ البصيرة .. صلب الإيمان



على امتداد التاريخ الإسلامي، ومنذ أن بدأت دعوة النبي صلى الله عليه واله وسلم، لم تكن هنالك امتيازات لبعض الفئات أو الأشخاص على البعض الآخر، لا سيما وأن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد قال يوما: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى". أي أن خاتم الأنبياء والمرسلين عليه وعلى آله الصلاة والسلام وضع التقوى حدا ومعيارا بين بني البشر المنتمين للدين الإسلامي الحنيف.

ومن هذا المنطلق، عمل بعض الأشخاص في عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم، وبعد ذلك في زمن الائمة عليهم السلام بجد واجتهاد من أجل الوصول إلى الغاية العظمى ونيل الدرجات العليا واللحاق بركب محمد وال محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام. وقد كان أول الواصلين لهذه الغاية هو أبو ذر الغفاري حينما قال له النبي صلى الله عليه واله وسلم: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر". وكم هو عظيم هذا الوصف من النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم لأبي ذر الغفاري، بل وأي عظمة وصلها أبو ذر الغفاري حتى ينال هذه المرتبة وهذا الوسام من صاحب الشفاعة صلى الله عليه واله وسلم.

ولحق بأبي ذر الغفاري، رفيقه في الجهاد وصاحبه في الإسلام سلمان الفارسي والذي قال في حقه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "سلمان منا أهل البيت"، فكان هو الشخص الثاني الذي مُنح امتيازا رفيع المستوى من النبي صلى الله عليه واله وسلم. وأي فضل أن ينتسب سلمان الفارسي أو كما سُمي لاحقا بسلمان المحمدي أن ينتسب لأهل بيت النبوة بعمله وتقواه وجهاده لا بنسبه.

هذه المنازل الرفيعة والأوسمة العالية لم تنلها إلا القلة القليلة من الشخصيات من لدن النبي صلى الله عليه واله، أو من أمير المؤمنين عليه السلام أو الإمامين الحسن والحسين عليهم السلام. حتى جاء صادق آل محمد عليهم السلام وقال قولته المعروفة في حق عمه العباس ابن أمير المؤمنين عليه السلام: "كان عمّي العبّاس بن علي عليه السلام نافذ البصيرة، صُلب الاِيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً". فما أعظمها من كلمات خرجت من لسان إمام معصوم لا يخرج من فمه إلا الحق.

فما الذي عمله أبو الفضل العباس عليه السلام حتى ينال هذا الوسام الرفيع المستوى، وما الذي صنعه قمر بني هاشم عليه السلام لكي يُثني عليه الإمام الصادق عليه السلام هذا الثناء الكبير؟ في الحقيقة، إن جهاد العباس عليه السلام لا يقتصر على يوم عاشوراء وواقعة كربلاء فحسب، فالعباس عليه السلام جاهد الجهاد الأكبر أي جاهد نفسه وروضها وأدبها قبل أن يجاهد في كربلاء. نعم، لقد وصل أبو الفضل العباس ابن أمير المؤمنين عليه السلام إلى مرحلة عالية من التقوى واليقين، حتى أنه كان لا يقترب من الأمر المكروه فضلا عن الحرام الذي هو أبعد عنه بكل تأكيد، فهو ربيب أمير المؤمنين عليه السلام، وربيب فاطمة بنت حزام الكلابية أم البنين عليها السلام والذي تزوجها أمير المؤمنين وهي من خيرة نساء زمانها، وقبيلتها من أفضل قبائل العرب وأشجعهم ولنا في حديث أمير المؤمنين لأخيه عقيلا "يا عقيل أبغي لي إمرأة ولدتها الفحول من العرب لتلد لي غلاما يكون ناصراً لولدي الحسين". فمن تربى في حجر علي ابن أبي طالب وأم البنين فسوف يكون رجلا صالحا مؤمنا شجاعا تقيا.

أما في كربلاء، فإن العباس قد تكفل بأخته زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السلام، تكفل بها في الطريق وفي كربلاء أيضا، ولعل البعض يعتقد أنها مهمة سهلة، ولكن أن تكفل امرأةً تمثل الخدر والعفة كلها لهو أمر صعب للغاية. ولعلنا نصل بعد ذلك إلى رفضه أمان ابن زياد والشمر بن ذي الجوشن عليهما لعنة الله، حين قالوا له بأنه إن رضخ لهم واتبعهم فإنه سيكون أميراً لجيشهم فقال قولته المشهورة والتي زلزلت كيان ذلك الجيش الجرار: "لَعَنَك الله، ولعن أمانك، أتؤمِّننا وابن رسول الله لا أمان له ؟!". وهنا نجد أن هذا البطل الهمام ربيب أمير المؤمنين عليه السلام، وصل إلى مقام عالٍ جدا، حيث لم يرفض العرض لأن الحسين عليه السلام يكون أخاً له، ولكن لأنه إمام معصوم مفترض الطاعة، وابن رسول الله وعلي وفاطمة عليهم السلام.

حتى جاء يوم العاشر من المحرم، وبرز أبو الفضل العباس لجلب الماء، فلما أن أحس ببرد الماء رماه من يده، لأن سيده الحسين عليه السلام لم يشرب الماء بعد، وارتجز قائلا:
"يا نفس من بعد الحسين هوني .. وبعده لا كنت أن تكوني 

هذا حسين وارد المنون .. وتشربين بارد المعين 

تالله ما هذا فعال ديني"

إن هذا هو الإيثار بعينه، والإيثار هو تقديم من آثرته على نفسك وإن أضر بك ذلك وسبب لك أذىً كبيرا، فيا لهذه العقيدة الراسخة من أبي الفضل العباس عليه السلام، ومعرفته ويقينه بإمام زمانه وسيده ومولاه الحسين عليه السلام. فقد كان يعلم علم اليقين أنه إن فعل ذلك، نال الدرجات العالية والمقامات الرفيعة، فهو آثر إمام زمانه الحسين عليه السلام على نفسه. وحتى قيل فيه شعرا كثيرا ولعل أجملها ما قاله السيد محسن العاملي:
"لا تنسى للعباس حسن بلائه .... بالطف عند الغارة الشعواء  
واسى أخاه بها وجاد بنفسه .... في سقي أطفال له ونساء
رد الألوف على الألوف معارضا .... حد السيوف بجبهة غراء"

فهل بعد إيثار العباس عليه السلام إيثار آخر، وهل بعد قول الإمام الصادق عليه السلام عن عمه العباس قول في توضيح منزلته الرفيعة.


رضا بن عيسى اللواتي

مسقط – سلطنة عمان